السياسة السودانية

📍المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (16) قال لِيَ البشير – النيلين

في افادات مهمة خطيرة قال لي الرئيس البشير ذات مرة:
إن القوات المسلحة كانت مدركة لمخاطر عملية شريان الحياة، وكان منسوبوها يعارضونها لمعرفتهم أنها ستشوّن ومن ثم تقوي حركة التمرد.
وقال لي: إنه تحرك من منطقة قيادته في غرب النوير إلى منطقة المجلد وبابنوسة لحشد معارضة القيادات الأهلية للعملية، وإنه وقّت تحركه مع الأيام التي سبقت تحرك أول قطار إغاثة من بابنوسة إلى الجنوب. ثم جاء اللواء برمة ناصر ليشهد تحرك القطار.
قال: وكنت في المُجلد فرأيت من الأصوب مقابلته والسلام عليه.
(وقتها كان برمة ناصر وزير دولة بالدفاع في حكومة الصادق المهدي).
فلما ذهبت للسلام عليه أمسك بيدي وطلب مني مرافقته – كأنه أدرك خطتي – إلى بابنوسة.. وكنا نعرف بعضنا منذ أن تزاملنا في نيالا وكان برمة ضابط استخبارات الحامية هناك.
وأضاف: إنه فوجئ بأن برمة استخدم فقط المسيرية في القطار، ابتداءً بسائق القطار وكل العاملين به، ليضمن نجاح رحلة القطار إلى محطته الأخيرة وإنزال المعونة.
وكنتُ ذكرتُ له تواطؤ دول جوار في إمداد حركة التمرد أو استفادتها مما يصل للحركة، فأفادني الرئيس أن حكومته كانت ترصد تقاسم حكومة موي للعدة والعتاد الذي يصل للحركة.
وقال: إن منقستو هايلي مريام كان يناصف السلاح الذي يصل للحركة من القذافي عبر إثيوبيا.
يرى البشير أن من أهم عِبَر عملية شريان الحياة، أن لا تترك المنظمات الأجنبية تعمل دون رقابة ذكية؛ بل مشاركة المنظمات الوطنية؛ لأنها إن تُركت دون تطبيق هذين العنصرين ستمارس تجاوزات تضر بالأمن القومي.
وكنت كتبت عن بعض تجاوزاتها.
وأتذكر هنا ما ذكره لي الرئيس عن أنهم لما حرروا مدينة فشلا من سيطرة التمرد، فوجئوا بوجود معسكر ضخم يضم 12 ألف طفل، تدربهم حركة التمرد، وتسميهم (الجيش الأحمر). والمؤسف أن منظمة اليونسيف UNICEF تشرف على هذا المعسكر بالتناقض مع ما ينص عليه ميثاقها وهو حماية الطفولة وتحريم تجنيدهم!!!
وكان لي بنيروبي زميل روسي يسمى سيرجي. كان صاحب خمرٍ، يحبها ويشربها، بل يَعُبُّها عباً. وكنت أتَصَيّده في حفلات الكوكتيل وحفلات الاستقبال واحتفالات الأعياد الوطنية للدول؛ وأبقى قريباً منه، بل أبقى حتى آخر الاحتفال؛ لأن صديقي سيرجي لا يكاد يرتوي منها حتى آخر الحفل. وحين استَيقنُ أنه ثَمِل، وأخذت بنت الحان تلعب برأسه، أقترب منه وأثير معه ما يهمني من موضوعات. فيتدفق بالحديث ولا يكاد يستبقي سِرّاً. وفي إحدى جلساتنا تلك حدثني عما يعلمه من دور إسرائيل في الجنوب وفي عملية شريان الحياة تحت غطاء منظمات غربية.
ومما كشفه لي الرئيس في هذا الصدد أن جهازي الأمن والاستخبارات العسكرية، كانا يتابعان عمل الموساد بالسودان.
وقال لي: إن مكتب الموساد يَتّخذ من مبنى غرب معرض الخرطوم الدولي مقراً له.
وذكرني بالمبنى غرب المعرض، الذي أمامه كُتَل خرسانية، ويرفع فوقه علم أمريكي كبير، ويحرسه جنود من المارينز.
وائتمنني الرئيس يومها على اسم الصحفي الشهير الذي جنده الموساد، وكان الصحفي الشهير دائم التردد على ذلك المبنى ، الذي يظن الناس أنه تابع للسفارة الأمريكية.
وقال: إنه من بين من جندهم الموساد ضابط في القوات المسلحة. وجرى تجنيده عن طريق فتاة يهودية فائقة الجمال؛ وكان الضابط ضعيفاً أمام الجمال!!! قال الرئيس إن ذلك الضابط كان من أكفأ ضباط الجيش، وكان يحبه ويعلّق عليه آمالاً.. وإنه تألم وحزن يوم علم بتلك الواقعة، وأقسم إنه لم يَنَمْ تلك الليلة حتى الصباح. وأنبأني أن ذلك الضابط لَقِيَ جزاءه.
وأسَرّ لي بأسباب منطقية، تكشف عن مستوى رفيع من الذكاء في العمل الاستخباري بلغته أجهزتنا في فترة الإنقاذ، جعلته يُبقي على مكتب الموساد في الخرطوم!!!
ومما أوردنا تتجلّى خطورة المال والخمر والنساء على الدبلوماسيين وضباط الجيش والمسؤولين والفاعلين، في كل العالم.
وكما أسلفت، فقد قام تدخل إسرائيل في السودان على إرث بن قوريون، ولا يزال يتواصل، بل إنه أوغل في التدخل؛ ومهد لإيغاله لجوء سودانيين لإسرائيل، فجندت الموساد بعضاً منهم، وبعثت بهم للسودان عبر يوغندا.
وبعد تغيير نظام البشير وضعف جهاز الأمن، الذي رافق ذلك التغيير، تمكن الموساد في السودان أكثر.
أمّا العلاقة، التي تنافس البرهان وحميدتي على إقامتها مع إسرائيل، فقد فتحت لجهاز الاستخبارات اليهودي الباب على مصراعيه ليعبث كما يشاء!!!
كشف لي البشير عن حيل بعض المنظمات في تسريب السلاح لحركة التمرد؛ ومن بينها أن المنظمة تستخدم طائرتين، إحداهما التي حصلت على الإذن، وترافقها وبالقرب منها تماماً طائرة تحمل السلاح وتدخل الأجواء بدون شارة نداء Call Sign.
وقال: إن الجيش رصد هذه الفعلة، التي قام بها الصليب الأحمر الدولي.
طلب الرئيس استدعاء ممثلي الصليب الأحمر؛ فلما جاءوه وصدمهم بتلك المعلومة، أنكروا صلتهم بالطائر الثانية، وزعموا أنها ربما تكون طائرة سويسرية.
واصل الرئيس ضغطه؛ وقال لهم: نحن نعرف الفرق بين علمكم وعلم سويسرا؛ لأن علم سويسرا به صليب أبيض على خلفية حمراء، أمّا علم الصليب الأحمر فلونه أحمر على خلفية بيضاء.
هكذا كانت مراوغات منظمات غربية ترفع شعارات الحياد والإنسانية، ولا تمارس سوى التحيز وتأجيج نيران الحروب.
وثبت لي بالتجربة العملية أن الثقة العمياء بالمنظمات عامة، سواء كانت منظمات أمم متحدة أو منظمات غير حكومية دولية INGOs، والاعتقاد أنها وكالات بريئة حميدة Benign Agencies بلا أجندتها السياسية الخاصة، هي ضرب من السذاجة.
العاملون في هذه المنظمات والبعثات يكذبون.
ويعترف بعضهم بكذبهم بعد أن يوقعوا بالبشر كل ضُر؛ لكنهم يعترفون غالباً، بعد أن يتركوا الخدمة.
وكمثال على ذلك نفيد بما كشف العالم الأمريكي روكو كازاغراندي – وهو بروفسر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT – مفتش الأسلحة التابع للأمم المتحدة وأحد أبرز أعضاء لجنة التفتيش عن أسلحة الدمار الشامل في العراق، الذي قال : أن الأمر برمته كان “هزليا”!!!
واعترف روكو أنه كذب عدة مرات بشأن وجود أسلحة دمار شامل لدى صدام حسين!!
ولم يأبه بما سيجره كذبه من ويلات؛ عانى منها بالفعل عشرات ملايين العراقيين!!!
وثمة حلف غير معلن بين المنظمات التي تعمل في الإغاثة وأجهزة الإعلام، يتواطآن عبره أن تقوم أجهزة الإعلام بتضخيم مشكلة ما والمبالغة في أعداد ضحاياها لاستدرار العطف وتقاطر الدعم المادي والسياسي، ليبلغوا بها مبلغ الأزمة؛ فمن غير أزمة سيتحول العاملون في المنظمات إلى فائض عمالة!!
وهذا رأي البشير أيضاً.

السفير عبد الله الأزرق


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى