السياسة السودانية

يا ماما، العيال بتقولي يا بختك أمك مُزّة!!

[ad_1]

سمعت بالصدفة ابني يتحدث مع خاله: “كان نفسي يا خالو ماما تكون شبه الستات الكبيرة، ضخمة كده ولها هيبة. لما تدعي ربنا يستجيب منها على طول، ماما لو دعت دعوة، ربنا مش هيستجيب منها لأنها مش مُقنعة، الملائكة هتقولها: احلفي كده، قولي والله العظيم أنا أم”.

لم أستغرب هذا الحديث فقد سمعته من قبل: “صلّي ركعتين كده يا حاجة وادعي لنا عشان ربنا يكرمنا، ولا أنت مش زي كلّ الأمهات”. تحوّل الأمر في بعض الأحيان لأنْ أمتنع على استحياء من الذهاب إلى مدرسته: “يا ماما، العيال بتقولي يا بختك أمك مُزّة، وأنا بضايق”. أضحك وأقول له: “تتضايق ليه ياعبيط، حد يتضايق إن أمه حلوة؟”.

هناك جانب حزين غير مرئي في الحكاية، أقول في نفسي: لماذا تستعجل يا عمري على كسر سنوات شبابي والتعجيل بشيخوختي من أجل أن أتحوّل لهيئة الأم التي تريدها؟ مع ذلك عند ذهابي لمدرسته لأمر هام؛ أحاول ارتداء ما يُظهرني بمظهر يقترب مما يريد، ويبعدني عن تلك “المُزّة” التي يراها رفاقه، لكنني في كلّ مرّة لا أرضيه بشكل كامل. تسبقني دائماً أمهات زملائه بخطوات كثيرة؛ مهما جريت لا ألحق بهنَّ.

بصراحة شديدة، ابن بطني عنده حق، كلامه صحيح. أنا نفسي لا أشعر أنّي أمٌ كما يجب، لا أضع نفسي في خانة الأمهات أصلاً، أقلّل من جدوى دعائي وأطلب منه أن يعتمد على نفسه ولا ينتظر دعوتي كي يستند عليها، كلّ ما أفلح فيه أن أخبره أنّي أحبه وأنّه أغلى من نور عيني، مع حضن كبير يضمّنا معا كطفلين، لا أحد منا أكبر سنّاً من الآخر.

هذا الأمر جعلني أضع صورتي بجانب صور لأمهات أخريات أحضرتهنَّ من ألبوم العائلة: أمي، أخواتي، خالاتي، جداتي، عماتي، أبدو امرأة نحيفة وطويلة نوعاً ما وسط أمي وخالاتي وباقي نساء العائلة اللواتي يمتزنَ بضخامة وطول الجسم، تقترب صورتي من صور أخواتي، لكنهنَّ أقرب كثيراً عني للشكل المعقول والمقبول للأمومة.

بحثت عن صور أخرى لأمهات في نفس سني أو أكبر قليلاً -زملاء الدراسة- هذا الجيل الذي أنا منه لا يشبه حقاً الأمهات الأوائل اللواتي كبرنا على رؤيتهنَّ أمهات كبيرات. أتفحّص الصور في مناسبات عديدة، وفي فترات زمنيَّة مختلفة وأقول: “وعهد الله هم مخلوقين أمهات كده، مش شطارة منهم ولا حاجه”. أقول هذا وأعلم إنّي أغشّ وأحرف الكلام عن مواضعه لأرضي حاجةً في نفس ابني، ونفسي.

الحقيقة، هؤلاء النسوة منذ البداية التزمنَ بأدوارهنَّ في الحياة، عشنَ كلَّ مرحلة حسب ما يتطلب الدَّور منهنَّ، ارتداء الوجه والملابس المناسبة، اختيار ألفاظ وتصرفات معينة. يحسبنَ حساب كل شيء بالشعرة “ولاد اللذينة”.

الواحدة منهنَّ مثلاً حين وصلت إلى دور الأمومة، عاشته بإتقان كما يجب أن يعاش، تحوّلت بقدرة قادر -حتى لو هي صغيرة السن والحجم- إلى هيئة أم بكلّ جلال ووقار وهيبة الأم. تَطيب ملامحها فجأة، وتسكن جدات وأمهات قديمات في صوتها وصورتها، تركن الملابس الضيقة والمبهرجة، وترتدي الواسعة والمنقطة بزهور ورسومات صغيرة، تتمختر وتتأنّى في مشيتها، فقد أصبحت حضرة “السَّيدة الأم”.

تلد وتقول لابنها “يا ضَنايَ” بذمّة، تنطقها بغريزتها الحميميَّة مع نزول اللبن وقضم ابنها ثديها لأولّ مرة. “يا ضَنايَ”… وتفتح لها أبواب السماء، “يا ضَنايَ”… وتتسع لها طرقات الأرض، “يا ضَنايَ”… وتحجز على حسابها الجنّات، “يا ضَنايَ”… ويهابها الابن في قلبه وتصرفاته واختيار ألفاظه، “يا ضَنايَ”… ويقبّل ابنها يدها وجبينها بامتنان وحب لا مثيل لهما.

حظّ هؤلاء الأمهات –الأمهات اللواتي يريدهن ابني- أن زمانهم نفسه كان مباركاً، تعيش الواحدة منهنَّ طفولتها حتى تشبع من اللعب والجري، تنفض فستانها من اللعب وتدخل مرحلة المراهقة بكامل عفويتها وشغفها. تنضج ثمارها على مهل، يطول يومها، تتكاثر عدد ساعاته حتى تظن أنَّه الليل لن يأتي، يأتي الليل ويطول أطول من المسافة بين دعائها وتأخر الرب عليها في الرَّد، اليوم الواحد يفرق جداً في اكتمال ونضج تفاحاتها، استدارة مؤخرتها، و”سرحان وطولان” عودها… على أحرّ من الجمر يَطلبنَ الزَّواج صامتات، ويسكتنَ خجلاً عند حدوثه.

كلّ تلك الأيام والسنوات القليلة مرت عليهن مباركة بحق، لنحسب مثلاً أنه في المتوسّط يكون عمر المرأة سبعة عشر عاماً حين تصل لعتبة الزواج، سبعة عشر عاماً عاشتها كثيرة، مباركة، وافرة، تستعد بعدها للدور التالي فلا شيء يشغلها.

حظّنا –حظّي أنا بالتحديد- أن أيامنا “معفرتة” وزمننا قصير بشكل مخيف. لم نلعب كما يجب في طفولتنا، الوقت كان ضيّقاً على اللعب والمذاكرة، فأخذته المذاكرة كله، وادّخرنا اللعب لأيام أخرى لم تأت أبداً. مرّت المراهقة كالهواء، لم نشعر بالأيام وهي تجري بنا، بالتالي لم تنضج ثمارنا على مهل، بل تم سلقها. وصلنا لمرحلة الزواج ونحن عالقين في مراحل سابقة لم نخرج منها بعد، أو خرجنا منها غير مكتملين. لم تأخذ طفولتنا على محمل الجدّ ولا سنوات طيشنا التي كان يجب علينا أن نلتزم فيها بالاتزان المبالغ فيه، والذي لا يتناسب أبداً مع مرحلتنا العمريَّة، حين وصلنا للأمومة ولطفل يقول لنا “ماما “، لم نستوعب الأمر وأخفقنا، فشلنا فشلا ذريعاً.

نحن معذورات، وقتنا ضيّق وأحداث حياتنا متلاحقة، بالكاد نلتقط أنفاسنا، نتوه بين ما نعيشه وما يجب أن يُعاش وما نتطلع ونحلم بمعايشته. هناك توتر دائم، لا راحة ولا طمأنينة كتلك التي امتلكتها الأمهات الأوائل.

الصراع مستمر بين أن أكون أمّاً وأكون نفسي، بين أن أتخلي عن المراحل المؤجلة وكل الخطط التي ادخرت لأوقات لاحقة، وبين حمل مسؤولية الأمومة والكثير من الجدية التي تقصّر العمر وتضخّم الجسم وتجعل الصوت خشناً ووقوراً حتى يهابه الأبناء.

معظم الأمهات حالياً ناعمات وصوتهنَّ رقيق، تنخدع في مظهرهنَّ، لا يعترفنَ بالسنّ ولا بالولادة ولا عدد الأبناء وأعمارهم، يتجمّلن ويمحين علامات تمدّد الجسم والكَلَف، هناك حلول دائماً تمنع التقدّم في العمر، وتجعله يقف عند العمر الذي يردنَه.

رأيت صباح اليوم مقطع فيديو لعجوز –تشبه جدتي فريدة- ترقص في حفل زفاف حفيدتها، كانت جميلة وهي تتمايل بجسدها القصير ووجهها الأبيض بحمرة طبيعية زاهية على خديها. الفرحة والرضا على وجهها وبركة العمر بخيوطه جعلتها تبدو في غاية الجمال. هذه الملامح أوشكت على الانقراض، لم أعد أرى هذه الملامح في الشارع أو المواصلات أو المناسبات، معظم النساء الآن شابات أو يمتنَ وهنَّ يحاولن ذلك.

الجدات قصيرات ومربعات الشكل، هكذا تحتفظ ذاكرتي بصورة جدتيّ الاثنتين، جدتي أم كلثوم أم أبي، قصيرة، مربعة الشكل وملامحها قمحيَّة، شخصيتها قويَّة؛ تحكم دولة جدي بأكملها. أما جدتي فريدة أمّ أمي، فكانت بيضاء قصيرة وسمينة، صوتها ممتلئ بجنيّات، نعم أذكر أنّي كنت أسمع صوتها يخرج مزدوجاً عريضاً من فمها، فيه حشرجة غريبة ومحبّبة، كنت أراها دائماً إمّا تحمل لبناً على رأسها وتذهب لتخضه في الماكينة، أو تضع الجبن على الحصيرة.

كان الخير يرافقها أينما ذهبت، تلبس جلابيتها السوداء فتبدو بنت أكابر، ثدياها شامخان، مداسها أسود لامع، طرحتها شيفون سمراء تظهر رقبتها بيضاء عريضة، يمتد البياض قليلاً ليدخل صدرها من فتحة جلابيتها على شكل الرقم ٧. كانتا أكثر الأمهات وقاراً وهيبة في نظري، هما وحدهما المصدر الأول للأمومة، هذه نفخت في بناتها الأمومة وتلك أيضاً.

أعلم جيداً أن أمي لم تقصّر في أن تجعلني ماهرة في التحوّل لدور أم حين حملت وولدت، كما فعلت أمها معها، وليست مشكلتي أو مشكلتها بالأساس، الأمر قديماً كان يحدث تلقائياً دون جهد أو ترتيب، أما الآن فهي لعنة جيل بأكمله، وأجيال أخرى قادمة تضيع بين ما تكونه وما يجب أن تكون عليه.

“رصيف22”

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى