السياسة السودانية

لا تقولي إنها الرصاصة الأخيرة!

[ad_1]

منظور نسوي للصراع المسلح في السودان

زينب عباس بدوي[1]

تنويه: هذه الورقة تحمل وجهة نظر كاتبتها فقط، ولا تعبر عن وجهة نظر أي جهة أخرى.

كانت أقدامي مثقلة بمزيج من الغضب والحزن، وقلبي يرتجف بالتردد مع كل خطوة أخطوها وأنا أغادر منزلي الصغير بالخرطوم في اليوم الخامس لاندلاع الصراع. خاطري نهر جارف من الأسف والانكسارات؛ هممت بالتراجع أكثر من مرة ولكن كيف البقاء في مكان لا يوجد فيه شي غير أصوات الدمار، ورائحة الموت، ودخان الجثث؟ لا قطرة ماء لا مصابيح وللخوف ألف قناع..

تجولت بناظري في أركان المنزل؛ مقتنياتي التي انتقيتها بحب وعناية، أغراض أبنائي المتناثرة في فوضى محببة، مكتبتي الساحرة، صور أهلي، أحبابي، وأصدقائي عالقة على الجدران ترمقني في حيرة وشفقة. كل شي كان يشدني للمكان ولكن كيف البقاء في الأرض الخراب؟

استجمعت ما تبقى من ثباتي وتلحفت بثوب من الطمأنينة الزائفة وخرجت إلى المجهول العريض.

زينب عباس بدوي

مقدمة

برغم جسامة الانتهاكات والتجارب المريرة التي تعرضت لها النساء خلال الصراع المسلح الدائر حاليًا في السودان، إلا أنه يمكن القول إن تجارب النساء مع الصراع لم تُستجلى ولم يُكشف عنها بعد. والقليل من التجارب التي وُثِّقَتْ تبدو مثل فيلم تراجيدي لا يمكن تصور حدوثه على أرض الواقع وتعجز عنها طاقة الوصف. فالنساء في السودان يملكن ملايين   القصص والحكايات الصغيرة عن فظائع الصراع، وداخل كل امرأة قصتها الكبيرة الخاصة ومعاناة من شكل مختلف.

ظلت الصراعات والحروب حقيقة من حقائق الحياة الأساسية في السودان، وحاضرة بقوة في حياة النساء، وإن اختلفت أشكال تلك الصراعات والحروب. فبعض تلك الصراعات مباشرة مثل الصراع المسلح الدائر حاليًا، وبعضها صراعات خفية وناعمة ضد النساء، تنتجها بنية التمييز القابعة في البنيات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

لعبت المرأة السودانية دوراً مركزياً في ثورة ديسمبر 2018 والإطاحة بالنظام السياسي الأسبق المستبد من أجل تحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية. كما أبدت النساء مقدرةً على القيادة وتصميماً على تحقيق واقع جديد تسوده المساواة والكرامة وإنهاء التمييز ضد المرأة إلا أن تحوّل الفترة الانتقالية إلى صراع مسلح دموي شرس ارتُكبت فيه أبشع انواع الجرائم والانتهاكات، وأصبحت فيه النساء مهددات بفقدان الوطن، يعني أن النساء مواجهات بمرحلة جديدة أكثر قسوة وأعقد وأصعب كثيراً مما مضى؛ خاصة مع اتساع رقعة الصراع وتعقد خارطته السياسية والعسكرية ووضوح مظاهر الانحيازات العرقية.

الورقة ليست تقريراً عن انتهاكات حقوق النساء أثناء الصراع – وإن تعرضت للانتهاكات في سياق التحليل. بل تهدف إلى النظر للصراع من منظور نسوي، وما أحدثه وسوف يحدثه الصراع من آثار بعيدة المدى على علاقات القوة وأدوار النوع الاجتماعي وانعكاساته على أوضاع النساء السودانيات وأيضا محاولة للنظر لأفق جديد يتجاوز التعامل مع النساء باعتبارهن ضحايا سالبات للصراع لا يملكن غير الشجب والإدانة الأخلاقية للعنف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذكوري الذي أنتج الصراع. بل النظر للنساء باعتبارهن فاعلات حقيقيات يملكن المقدرة والهمة والإرادة للإسهام في واقع جديد تلعب فيه النساء أدواراً رئيسة لتجاوز الصراع والتصدى للأسباب الهيكلية التي أنتجته، وفق رؤية نسوية ساطعة ومناهج عمل جديدة.

حرب قديمة في أوانٍ جديدة

لم يكن الصراع المسلح الذي اندلع في السودان يوم الخامس عشر من أبريل2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مفاجأة غير سارة كما يعتقد الكثيرون، على العكس كانت احتمالية الانحدار نحو مواجهة حتمية مليئة بالمخاطر بين طرفي الصراع أمراً متوقعاً[2].

بالطبع فإن أي محاولة لرد الصراع إلى سبب واحد أو إلى حيثيات ما جرى من أحداث في الأيام والأسابيع الأخيرة قبل اندلاع الحرب، أو محاولة تفسير الصراع باعتباره فقط صراع بين جهتين عسكريتين، كل ذلك يعتبر تبسيطًا مخلًا، خاصة أن أجواء الصراع قد كشفت أن الخلل في بنية الدولة وهياكلها، والتي كانت سبباً رئيساً من أسباب الصراع، أعمق بكثير مما تصوّره غالب المراقبين والمهتمين – حيث زادت هشاشة بنية الدولة وانعدام قواعد الحكم الراشد من حالة العجز الاجتماعي والاقتصادي عميق الغور، وفاقمت الاستقطاب في أوساط المجتمعات. وأدّى ذلك إلى انهيار مؤسسي واجتماعي، مما قاد إلى انهيار النظام الأوسع للدولة السودانية ونشوب الحرب.

أسباب الصراع كثيرة ومعقدة، وتعود بشكل أساسي إلى عدم الالتزام بسيادة حكم القانون والحكم الراشد؛ مما أدى إلى تشوهات في بنية الدولة، ومهد الطريق لتمكين قوى ذات مصالح اقتصادية وسياسية وإيديولوجية محددة في القطاعات والمؤسسات الوطنية الحساسة.

يعود الصراع أيضًا إلى سلسلة طويلة من العنف والمظالم الكامنة في البنيات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية في البلاد بما فيها العنف السياسي. فوصول غالبية الحكومات الوطنية إلى السلطة، وممارساتها للبقاء في الحكم، كانت على الدوام المدخل لعنف وفظائع وجرائم تطال المدنيين والعسكريين على السواء. وقد تمكّنت بعض تلك الحكومات من الاحتفاظ بالسلطة لعقود طويلة، غير أن الاحتفاظ بالسلطة كان يعتمد دائمًا على القسر والإكراه والبوابات الأمنية، فالقمع البوليسي ظل يمثل عنصراً جوهريًا لتلك الحكومات.

وليس هذا بمستغرب، حيث أن أغلب تلك الحكومات تهيمن عليها كيانات إيديولوجية واجتماعية محددة بدلاً عن الكيانات الوطنية الشاملة، وأنظمة دكتاتورية أذكت جذوة الصراعات والحروب، وجرّت البلاد إلى تخوم التطرف العنيف والإرهاب، بينما ظل الهاجس الوحيد لتلك الحكومات هو البقاء في الحكم. وظلت غالبية تلك الحكومات تلجأ إلى استخدام الوسائل القسرية لإعادة تأكيد قدرتها على السيطرة على المواطنين وإغفال أي مطالبات بالمساءلة والمحاسبة والشفافية.

للصراع أيضًا جذور ضاربة في العنف الاجتماعي والثقافي، فالسودان يعتبر واحداً من أكثر الدول تنوعاً إثنياً وثقافياً ولغوياً ودينياً. ولكن تجاهل حقائق التعدد والتنوع وارتباطها بخصائص استعلاء عرقي وثقافي، أدى إلى تعميق حالة التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي[3]، وأنتج الصراعات والنزاعات[4].

أيضًا أدى التفاوت في مستوى التنمية بين الأقاليم المختلفة إلى تدهور القطاعات الاقتصادية الحيوية مثل الزراعة، والرعي، والإنتاج الحيواني. كما سبّب شحّ الموارد المائية ومهّد للتغيرات المناخية السالبة، ما أسهم في ظهور حركات التمرد المسلحة، وغذّى الصراعات والحروب الأهلية وما تبعها من نزوح ولجوء وانتشار للسلاح.

لقد ظلت العوامل الهيكلية للصراعات قائمة على الدوام في السودان، وعلى راسها: الفقر[5]، والتهميش، والتفاوت الحاد في مستوى المعيشة. لم يكن مستغرباً لذلك أن يسود الفقر، حيث ارتبطت السيطرة السياسية بالسيطرة الاقتصادية ارتباطًا لا فكاك منه، في ظل احتكار الطبقات الحاكمة، التي غالبًا ما تنتمي إلى جماعات إيديولوجية وسياسية معينة، وبعض الأثرياء المقربين من دوائر السلطة لمصادر الثروة في البلاد، من التجارة إلى الموارد الاقتصادية الأخرى مثل الزراعة والتعدين.

إضافة إلى ذلك، فقد تسبّب ضعف قدرات الدولة وانتشار النزاع المسلح في نشوء اقتصادات مكثفة تتغلغل فيها القطاعات الأمنية والعسكرية. وكانت الحصيلة هي انتشار الفساد والمحسوبية باعتبارها آثار جانبية لا مناص منها، ما مهّد الطريق إلى تفشي حالات السطو على الممتلكات العامة. وأدى غياب الأسس المؤسسية والمحاسبية، ووجود روابط متينة بين القوتين السياسية والاقتصادية إلى تنامي شبكات المحسوبية[6]، التي تلعب دور الغطاء لحماية مصالح ضخمة خارج الاقتصاد الرسمي للدولة[7].

ولا تنفصل أسباب الصراع عن فشل الأنظمة المتعاقبة في إعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بجانب فشلها في حماية حقوق الفئات الأكثر هشاشة، مثل النساء والأطفال وذوي الإعاقة والمسنين والنازحين.

في المقابل كان الانهيار الاجتماعي أكثر بروزاً في الدولة التي تجزّأت على أسس إثنية وقبلية، في ظل تدهور لغة الخطاب السياسي وسيادة لغة الكراهية والتعبير الفج عن الانتقاميات، مما أدى إلى ارتداد الأفراد إلى هويّاتهم الأولية، ووطّن للقبلية[8].

تعود جذور الصراع الحالي إلى ما يُعرف بأسلمة القوانين في 1983م، وفرض قوانين سبتمبر، التي مهدت لتمكين الجماعات المرتبطة ارتباطاً لا فكاك منه بدوائر الإسلام السياسي، فقد أسست تلك القوانين للمشروع الحضاري في السودان، وما نتج منه من تطرف وإرهاب واضطهاد حقوق المرأة[9].

يننتمي الصراع الحالي إلى تاريخ موغل في الإفلات من العقاب على انتهاكات حقوق الإنسان، بما فيها الجرائم التي يعاقب عليها القانون الدولي. فعلى الرغم من أن الدساتير الوطنية المتعاقبة قد أقرت، بمستويات متفاوتة، وثائق حقوق الإنسان، غالباً ما كان يتم إفراغ هذه الدساتير من مضمونها على مستوى الممارسة، مع تعليق الحقوق والحريات المنصوص عليها في الدساتير نتيجة للإعلان المتكرر لحالات الطوارئ. وقد أدت المصالح السياسة في كثير من الأحيان إلى الانقلاب على الدساتير – بما فيها الانقلاب على الدستور الانتقالي لسنة 2019م[10].

كذلك أدى عدم التشاور الموسع والعجلة في صياغة الوثيقة الدستورية لسنة 2019 إلى عيوب أساسية وتجاوزات في الوثيقة أغفلت الإحاطة بالحكم الراشد وأغفلت معالجات جوهرية في مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية كانت تتطلب التأسيس المبكر من أجل التمكين لانتقال ديمقراطي سلمي[11].

وينطبق الأمر ذاته نفس على التزامات السودان تحت الاتفاقيات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان، فبرغم أن السودان طرف في عدد منها، إلا أن تنفيذ هذه الاتفاقيات لا يُحظى بأي أهمية، وتظل مجرد التزام دبلوماسي لا يُنفذ على أرض الواقع إلا في أضيق الحدود. هذا مع الإشارة إلى أن السودان إلى الآن لم يصادق على الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) ولا على بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب 2003.

الصراع ذو صلة وثيقة بحقيقة أن التغيير الذي صاحب ثورة   ديسمبر 2018 قد دفع إلى سدة الحكم بمكونات ذات مصالح اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية متباينة، وبعضها بحكم خلفياتها الثقافية، والاجتماعية، والطبقية والسياسية ذات ارتباط وثيق ومصالح استراتيجية بالنظام الشمولي الأسبق؛ مما عرقل من مجريات التغيير وجعل انتصار الثورة شكلياً وجزئياً وغير مكتمل مما سهل الانقضاض عليها.

كذلك يرتبط الصراع بالدور الذي لعبته قوى الثورة المضادة والإسلام السياسي لوقف مجهودات بناء دولة الديمقراطية والمواطنة في السودان وتحديداً تخوفهم من القوة التي أبدتها النساء في رفضهن لمشروع الإسلام السياسي، وقد تمكنت قوى الإسلام السياسي من الوصول إلى مبتغاها في ظل المناخ العام الذي بالغت فيه قوى الثورة في تقدير حجم قوتها مقابل التقليل من قوة الخصوم (الدولة العميقة، والمؤسسة العسكرية، وحركة المعارضة السياسية للتحول الديموقراطي والإسلام السياسي).

أثر الصراع على علاقات النوع الاجتماعي

عند اندلاع الحرب، كان أكثر من 6 ملايين شخص في السودان على حافة المجاعة، بينما يواجه 20.3 مليون شخص -أي أكثر من 42 % من السكان- انعدام الأمن الغذائي الحاد[12]. وفيما يتعلق بواقع المساواة بين الجنسين، يحتل السودان المركز 129 من بين 147 دولة على مؤشر عدم المساواة بين الجنسين[13]. وما زالت الفجوة النوعية ماثلة في كل القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم واستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والعمل والمشاركة السياسية …إلخ.

ليس هناك من شك في أن قضية الفجوة النوعية في السودان هي نتيجة الحواجز الهيكلية لكل البنيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والموروث الاجتماعي والثقافي السالب الذي ظلت تغذيه وتعيد إنتاجه السياسات غير الحساسة تجاه النوع، بالإضافة للفقر والتهميش والنزاعات المستمرة. كما أن هناك نقصٌ مريعٌ في الإحصاءات المبنية على أساس النوع في السودان، وبالتالي يصعبُ الوصول إلى معلومات دقيقة عن أوضاع النساء. لكن المؤكد أن النساء في السودان لا يزلن يواجهن في مجتمعاتهن تمييزاً متجذرأ، وذلك في ظل الأعراف الذكورية، وديناميات النفوذ المجحفة.

لا توجد معلومات دقيقة عن نسبة الفقر في أوساط النساء أو نسبة عمل النساء في القطاعات المختلفة، إلا أن الإشكالية تكمن أيضاً، إضافة إلى عدم دقة هذه الإحصاءات، كونها لا تشمل النساء العاملات في الاقتصاد الرعائي أو العمل المنزلي أو الدعم المجتمعي، وتالياً، لا تلحظ القيمة الاقتصادية للعمل الذي تقوم به النساء، ولا تحتسب مشاركتهن الاقتصادية ضمن القوى العاملة. إلا أن الحقيقة الثابتة هي أن النساء في مدن وأرياف السودان المختلفة، ما زلن يتولين الجزء الأكبر من العمل دون أجرٍ، ويتحملن المسؤولية الرئيسة في رعاية الأطفال وكبار السن والأنشطة المنزلية الأخرى. هذا إضافة إلى أن هنالك فجوات أساسية في سياسات وتشريعات العمل السودانية تجاه النوع الاجتماعي[14].

تعاني النساء في المناطق الريفية من الفقر متعدد الأبعاد، وعلى الرغم من تمتعهن بالقدرة على الإنتاج مثل نظائرهن الذكور، إلا أن الحواجز الهيكلية والأعراف الاجتماعية التمييزية في بعض المناطق تجعلهن أقل قدرة على الوصول إلى الموارد، وتقيّد وصولهن إلى الفرص المتساوية.

من ناحية الحقوق القانونية، فعلى الرغم من أن الدساتير السودانية المتعاقبة منذ الاستقلال قد تضمنت مبادئ عدم التمييز ضد المرأة، لكن هذا لا ينعكس على مستوى الممارسة. وتسود مرجعيات معيارية أخرى غير معيار المساواة وعدم التمييز عند وضع القوانين الداخلية؛ حيث غالبًا ما تُنتهك الحقوق الأساسية للنساء تحت لافتة المرجعية الدينية أو العرف والعادات والتقاليد[15]، إضافة إلى وجود حواجز النوع الاجتماعي التي تباعد ما بين المرأة والقانون.

وقد ظل العنف ضد المرأة بتعريفه الواسع منتشر على نطاق السودان، بجانب أن الدولة لعبت دوراً رئيساً في مفاقمة العنف ضد المرأة بسنها لقوانين تميّز ضد النساء[16]، حيث اُستُغل، على سبيل المثال، الاغتصاب كواحد من أسلحة الحرب في دارفور. وبرغم أن الصراعات المسلحة قد ظلت دائماً حقيقة من حقائق الحياة الأساسية في السودان، وتسببت في آثار كارثية على النساء، إلا أن الحكومات المتعاقبة أخفقت في تحقيق سلام يتبنى منظور مراعٍ للنوع الاجتماعي؛ مما أدى إلى استدامة الصراعات والنزاعات المسلحة في البلاد[17]. كذلك لم تكن هناك إرادة سياسية لمتابعة الإجراءات القانونية لتقديم مرتكبي الجرائم ضد النساء أثناء الصراعات إلى محاكمات.

وبرغم تحديات قضايا النوع الاجتماعي في السودان، إلا أن البلاد، وعبر مختلف الحقب، لم تعرف آلية وطنية فاعلة للمرأة – على سبيل المثال، وزارة أو مجلس أعلى للمرأة[18].

في المقابل، ظل عمل المجموعات المدنية السودانية من أجل حقوق المرأة راسخاً ومستمراً، وارتكز على تاريخ عريض وتجربة ممتدة، حيث لا زال يستند إلى منظمات تاريخية وذات طابع جماهيري. وقد ساهمت الثورة في تشكيل بنية الوعي بالحقوق خاصة عند الشابات، ووفرت منصات أكثر حرية وفرصاً أكثر إبداعية للتنظيم. كما نشأت حركات اجتماعية جديدة وضعت المطالبة بحقوق المرأة في صدر أجندتها.

أما فيما يتعلق بالعمل السياسي، فما زالت العقبات التي تعُوق المشاركة السياسية للمرأة قائمة[19]، حيث تواجه النساء صعوبات في العمل في الأحزاب السياسية، وسط محيط ذكوري طاغ، ومناهج عمل لأغلب الأحزاب بأدوار سياسية مصممة لكي يقوم بها الرجال. فمع اختلاف الأحزاب السياسية وموقفها من المرأة، إلا أنه لا توجد في غالب الأحزاب سياسات تدعم خلق بيئة صديقة للنساء.

النساء في دائرة الانفجار

في ظل هذا الواقع، وجدت النساء أنفسهن أمام الانفجار المفاجئ للحرب دون أن يكون لهن أي استعداد لمجابهته، خاصة أن الغالبية العظمى من النساء بعيدات عن مراكز اتخاذ القرارات السياسية والعسكرية، نتيجة للإقصاء والتمييز. وقد وصف مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان العنف الدائر حالياً في السودان بأنه “العنف الوحشي … وأن الجانبين داسا القانون الإنساني الدولي، ولا سيما مبادئ التمييز والتناسب والحذر”[20].

لقد اختفت مظاهر الدولة تماماً منذ اليوم الأول للصراع وسادت حالة من انعدام الأمن الخارج عن السيطرة. فمع تفكك الأعراف الاجتماعية التي تلعب دوراً مهماً في حماية النساء في ظل غياب القانون، إضافة إلى تعطيل العمل بالقوانين والدستور، فقد شكّل فقدان الأمن والأمان المستدام والاستقرار النفسي، أول أشكال الانتهاكات التي عانتها النساء، ورسمت أمامهن صورة بائسة وسوداوية للمستقبل القريب، ظلت تحاصرهن بالمخاوف والهواجس من احتمالات فقدان الوطن للأبد.

شكل فقدان الأبناء والأزواج والإخوان وأفراد الأسرة، ومعايشة العنف والموت، والآلام التي يسبّبها الجهل بمصير المفقودين أقسى أنواع الانتهاكات التي عاشتها النساء. وقاست النساء في دارفور، لا سيما في ولاية غرب دارفور، أشكالاً خاصة من المعاناة، حيث أشعل الصراع التوترات العرقية والطائفية القديمة في الولاية من جديد[21]. لقد عانت النساء على وجه الخصوص نتيجة فقدان المنازل ونهبها، فبينما يمثل هدم ونهب وإخلاء المنازل فقدان الأصول الاقتصادية لكل الأسرة، إلا أن النساء، وبحسب علاقات النوع الاجتماعي، هن الأكثر معاناة من الخسائر الاجتماعية والنفسية المترتبة على فقدان البيت، مقارنة بالرجال.

وبينما يصعب الحصول على إحصائيات عن أعداد النساء اللائي قُتلن أو جُرحن في ظل الحرب، إلا أنه وبحسب العديد من التقارير، فقد تعرضت المرأة السودانية للقتل والإصابة، وللقصف والاعتقال، وللتشريد والتهُجير قسراً من مناطق عيشها. وقد تسبب النهب والقصف في توقف إمداد الاحتياجات اليومية وتعرض النساء للجوع، كما أدى نقص الغذاء إلى آثار خطيرة على النساء – خاصة الحوامل والمرضعات والمسنات. إضافة إلى ذلك، تعرضت النساء المسنات لمعاناةٍ من نوع خاص، لعدم قدرتهنّ على الخروج من المنازل أو الإبلاغ عن أوضاعهن؛ ما تسبب في وفاة بعضهن داخل منازلهن دون أن يتلقين أي مساعدة. يحدث كل هذا في ظل غياب واسع لأبسط معايير الحماية والوقاية التي يتطلبها القانون الدولي الإنساني.

تسببت الحرب في قطع إمدادات المياه والكهرباء والغاز عن غالبية ولايات البلاد منذ أيامها الأولى، وقد أرغمت تلك الأوضاع النساء على رعاية الأسر باستخدام بدائل بدائية وشاقة – مثل نقل المياه وإنارة المنازل بالشموع والفوانيس وغيرها، ناهيك عن مشقة الأعمال المنزلية اليومية.

وبسبب توقف المستشفيات عن الخدمة واستهداف الكادر الطبي وعدم توفر المعينات الطبية والأدوية[22]، تعرضت النساء – خاصة المسنات منهن، واللائي يعانين من الأمراض المزمنة، والحوامل والمرضعات لمخاطر صحية بالغة. وواجهت بعض الحوامل خطر الموت في رحلة البحث عن طبيب أو قابلة أو بسبب الولادة في ظروف محفوفة بالمخاطر تزيد من احتمالية وفاة المواليد أو الأمهات[23].  وغالباً ما تضطر الحوامل للولادة في ظروف غير إنسانية ومهينة وقاسية وخطيرة. حيث تواجه النساء الحوامل احتمال الولادة دون تخدير أو احتياطات صحية أو تدخل جراحي إذا لزم الأمر.

أدى الصراع إلى آثار اقتصادية كارثية على النساء؛ فقد دمرت الحرب البنية التحتية وأوقفت حركة النقل والإنتاج، وأُغلقت مئات المصانع مما نتج عنه تسريح عشرات الآلاف من العاملين. كذلك فقد ملايين الأشخاص في المناطق الحضرية أعمالهم ووظائفهم، بجانب توقف مرتبات موظفي القطاع العام وبعض مؤسسات القطاع الخاص لشهور عديدة.

كذلك أفقدت الحرب النساء في القطاع غير النظامي مصادر دخلهن – وهن يمثلن نسبة لا يستهان بها من النساء العاملات. كما أصبحت النساء الريفيات أقل قدرة على أداء أعمالهن الزراعية بسبب انعدام الأمن ونقص الموارد. وفي ظل هذا الوضع، ازدادت أعداد النساء المعيلات للأسر، مما ضاعف الصعوبات عليهن كلما طال أمد النزاع. إذ تجد المرأة نفسها في وضع اقتصادي منهار يفرض عليها اللجوء إلى خيارات صعبة، مثل العمل ببعض المهن التي لم تعتد العمل بها من قبل، والتي قد تعرض حياتها للخطر.

وعلى الرغم من غياب إحصائيات موثوقة عن المساهمة المالية والاقتصادية التي قامت بها النساء لمساندة أسرهن ومجتمعاتهن في مواجهة كارثة الحرب، إلا أنه من المعلوم أن النساء ساهمن أكثر من الذكور في تقديم الدعم المالي لأسرهن ومجتمعاتهن أثناء الصراع، وبخاصة تغطية تكلفة النزوح واللجوء، مما كان له في المقابل أثر إيجابي، تمثل في زيادة قناعة المجتمعات التقليدية بأهمية عمل المرأة. كما عمقت المعاناة التي عاشتها النساء اللائي لم تكن لديهن موارد مالية ومصادر دخل عند نشوب الصراع، من وعي النساء بأهمية العمل والتمكين الاقتصادي للمرأة.

بسبب الاقتتال والهجوم على المناطق السكنية والتهجير القسري وحرق القرى والمنازل اضطر ملايين السودانيين إلى الخروج من مدنهم وقراهم، إما إلى مناطق أكثر أمناً داخل السودان، أو إلى دول الجوار. ومع توالي شهور الحرب ازداد عدد النازحين، ليصل إلى حوالي 5.5 نازحاً داخلياً[24]. كما أن أعداد اللاجئين خارج السودان ازدادت حتى وصلت. حوالي   1.4 شخص، نصفهم على الأقل من النساء. لقد ضاعفت الحرب سجل النزوح واللجوء في البلاد، وأدخلت نساء من مناطق حضرية ليس لهن تجربة سابقة مع النزوح واللجوء إلى هذه الدائرة القاسية.

واجهت النساء أثناء عمليات النزوح خطر الموت في الطريق نتيجة للقصف الجوي والمدفعي، وتعرضن للنهب والتحرش والاستغلال الجنسي والعنف اللفظي على نقاط التفتيش. كما عانين أيضاً جراء مشاهد الرعب والعنف والموت والدمار المنتشرة في أغلب الطرق. فقد أستدعى النزوح في بعض الأحيان قيادة السيارات فوق الجثث أو السفر أياماً طوالاً بلا طعام أو مياه أو حمّامات أو حتى أماكن للجلوس. إضافة إلى عدم توفر كراسٍ متحركة أو معينات للنساء ذوات الإعاقة والمسنات. كما أن قيود الإغلاق التي فرضتها الأطراف المتقاتلة على حرية الحركة وحظر التجوال، ووضع نقاط التفتيش بين الولايات والمدن والقرى، تُعرّض النساء تحديدًا لمخاطر جمة عند محاولة الخروج من المنازل، ما حرمهن من زيارة ذويهن وحكمت عليهن بالعزلة والحرمان.

في المقابل قادت عمليات النزوح واللجوء إلى إلغاء بعض القيود على حرية الحركة والتنقل للنساء والفتيات، حيث اضطرت كثير من الأسر السماح للنساء والفتيات بالنزوح واللجوء دون مرافقة ذكور من الأسرة، كما سمح للأمهات بالنزوح واللجوء مع الأطفال دون مرافقة الأب في تجاوز واضح للقيود القانونية والعرفية لحرية تنقل لنساء، الشئ الذي يزيد من ثقة النساء بمقدرتهن على التصرف دون هيمنة ذكورية.

اضطرت النساء في مدن وقرى النزوح إما للعيش في نقاط لاستقبال النازحين، غالباً ما تكون مدارس أو مساجد أو مراكز اجتماعية، أو العيش مع الأقارب والمعارف. إذ في الغالب، لا تمكن الموارد المالية الشحيحة، أغلبية النازحين من الحصول على مساكن منفصلة، نتيجة لغلاء الأسعار وانفلاتها في المدن المكتظة. هذا في وقت غالباً ما تعتري فيه صعوبات جمة السكن مع الأهل والأقارب، نتيجة لضيق المساكن والاكتظاظ الذي عادة ما يسبب توترات حادة داخل الأسر، بما في ذلك العنف المنزلي. كذلك تتضاعف مسؤوليات النازحات والمضيفات نتيجة لقيامهن بأدوارٍ إضافية في الرعاية غير مدفوعة الأجر، المتمثلة في إطعام النازحين والأعمال المنزلية الأخرى.

تعيش النساء اللائي اضطرتهن الحرب للجوء إلى بعض الدول، ظروفاً قاسية وقصصاً مروعة، وقد اضطرت كثير من النساء إلى السير مسافات طويلة والمخاطرة بعبور حدود دولية سيرًا على الأقدام. إضافة إلى سوء أوضاع المخيمات في مناطق اللجوء، والتي تفتقر لأبسط متطلبات الحياة. ففي دول اللجوء غالباً ما تواجه اللاجئات أوضاعاً معيشية سيئة، بسبب غلاء المعيشة والتكلفة الباهظة للحصول على الطعام والسكن وغيرها، خاصة الأسر التي لها أطفال.

إضافة للظروف المعيشية السيئة، تواجه اللاجئات تغيرات في أدوار النوع، حيث غالباً ما يفقد الرجال أدوارهم الطبيعية والاعتيادية، سواء في الإعالة أو الحماية، مما يزيد الأعباء على النساء، بخاصة مسؤوليات رعاية الصغار والمسنين وذوي الإعاقة، إضافة إلى صعوبات أخرى عديدة مثل التأقلم مع لغات بلدان اللجوء.

تواجه النساء اللاجئات خسارة الموارد المادية والاجتماعية وظروف المعيشة في بلد اللجوء التي تولد مشاعر الضيق، وعدم الإحساس بالأمان، وتؤثر في رفاههن ورفاه أسرهن. تواجه النساء أيضًا العديد من التحديات القانونية، فالقوانين التي تحكم أوضاع اللاجئين في بعض الدول تحد من الحريات الأساسية مثل حرية العمل والتنقل. وهي بذلك تؤدي إلى ضغوطات كبيرة على الرجل والمرأة، مما يزيد من احتمالات عنف يمارسه الرجال على النساء. كما أن حالات اللجوء غير القانونية تجعل اللاجئات عرضة للتحرش والعنف الجنسي، هذا مع تخوف عدد كبير من النساء من تبليغ الشرطة، خوفاً من التوقيف والترحيل. أيضاً تواجه اللاجئات في بعض الأحيان خطاب الكراهية ومخاطر شبكات الإتجار بالنساء.

برغم الصعوبات الجمة الناتجة عن تفجر الصراع، فقد لعبت المجموعات المدنية النسائية المنظمة أو غير المنظمة أدواراً كبيرة في مساعدة المدنيين، خاصة في مناطق النزوح واللجوء، بما في ذلك التطوع لتنظيم المبادرات وجمع التبرعات، والتصدي للمشاكل على الجبهات الأمامية، فضلًا عن انخراط كثير منهن في مهام يتولاها الرجال عادةً، مثل العمل في تلبية الاحتياجات، وكمتطوعات في المراكز الطبية والخدمية وفي مساعدة النساء ضحايا العنف. كما وقفت النساء في الصفوف الأمامية لتقديم اقتصاد الرعاية، وخاطرن بالخروج من المنازل لتلبية احتياجات أسرهن أو الجيران، دون الخوف من التعرض لمخاطر فقدان حياتهن. لقد أثبتت تجربة الحرب أن المرأة فاعل أساسي في الاستجابة الإنسانية، ولديها معرفة فريدة فيما يتعلق بتلبية احتياجات النساء والفتيات.

ترتبت على الصراع الدائر آثار بعيدة المدى على تعليم البنات، فقد تحولت مقار بعض المدارس والجامعات إلى ثكنات عسكرية أو مراكز إيواء للنازحين – مما يعني انقطاع أعداد كبيرة من الطلاب بما فيهم البنات عن الدراسة. ومع دوران عجلة الحرب، وتفاقم الأوضاع الاقتصادية السيئة، وتفشي العنف، والنزوح أو اللجوء تزداد مخاطر التسرب وعدم عودة البنات مجدداً إلى الدراسة. وذلك إضافة إلى أن الكثير من الأسر ونتيجة لسيادة المفاهيم التقليدية قد تعطي الأولوية في التعليم للذكور من العائلة.

مع ذلك، وبرغم الآثار السلبية للصراع على تعليم الفتيات، إلا أن المساندة الفعالة التي قامت بها النساء والفتيات المتعلمات لمجتمعاتهن وأسرهن في ظروف الصراع، خاصة تقديم خدمات العناية والرعاية الطبية، وتسهيل التعامل مع وسائل التكنولوجيا وغيرها، سوف تحفز وتزيد قناعة المجتمعات التقليدية بأهمية تعليم الفتيات.

لقد تركت الحرب الدائرة آثارها على كل مفاصل الحياة في السودان، ضاربة استقرار البلاد وأمنها في مقتل، معرضة حياة السودانيين لمخاطر جمة، ومهددة بالانهيار الاقتصادي وقدرة المؤسسات الخدمية على تقديم الخدمات الأساسية للناس. لكن أشد الخسارات التي يمتد أثرها لمدى بعيد يكمن في تمزق النسيج الاجتماعي، بآثاره الجسيمة على النساء؛ مثل تزايد معدلات العنف الأسري وحالات الطلاق، وزواج الصغيرات، حيث يضطر أولياء الأمور إلى تزويج بناتهم في سن مبكرة، تخفيفاً للأعباء المالية الملقاة على كاهلهم، أو بسبب انحسار الفرص الاقتصادية، أو نتيجة النزوح. وربما يسعى البعض الآخر لتزويج بناته من المجتمع المستضيف بغرض تمتين صلات القربى، والحصول على قبول يجعله أكثر قرباً من أفراد المجتمع الجديد، ويهيئ الفرصة لاستقرار الأسرة النازحة بشكل دائم في المجتمع المستضيف.

واحدة من التحديات الأساسية التي تواجه النساء زيادة التهميش الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. فنتيجة لتدمير البنى التحتية تتراجع فرص العمل المتاحة للنساء وتفقد النساء وظائفهن وأعمالهن ووسائل كسب عيشهن، بينما تفقد النساء الريفيات أعمالهن الزراعية. إضافة إلى أن فقدان النساء لمدخراتهن نتيجة لأعمال النهب والسلب أدى إلى إفقار النساء، بالتالي تضطر كثيرات منهن إلى العمل في المهن الهامشية أو التسول – شبكات الاتجار بالنساء.

وغالباً ما يؤدي النزوح واللجوء إلى فقدان التواصل بين الأسر وتفككها، وإلى زيادة نسبة الطلاق نتيجة للخلافات، وتقل فرص الزواج وتنخفض بالتالي نسبة خصوبة في أوساط النساء. وتقود ظروف الحرب أيضاً إلى زواج النساء من مجهولين، أو الزواج من جنود استُقدِموا للقتال في المنطقة، ثم يختفون، أو الزواج من الرجال المقاتلين الذين يستغلون سطوتهم العسكرية أو الظروف الاقتصادية السيئة للنساء. وتنتج عن هذه الحالات إشكالات قانونية تتعلق بتسجيل الزواج والأطفال مستقبلاً، وبمتابعة حقوق الزوجة والأطفال، وربما تؤدي إلى حرمان النساء من حضانة أطفالهن وزيادة كافة أشكال العنف ضد النساء.

في ظل زيادة عسكرة المدن وتعدد الفصائل العسكرية والأمنية وتنامي أشكالها تظل، بالطبع، التحديات الأمنية قائمة بشدة. فأجواء القتال والعنف وحالة اللاقانون مع سيادة الشعور بالإحباط وفقدان الأمل، تفتح المجال واسعاً لانتشار تيارات التشدد الديني، مما يسهم في خلق بيئة غير آمنة ومعادية للحريات، وخاصة لحريات النساء مما يهدد الحقوق والحريات التي نالتها النساء السودانيات عبر عقود طويلة من النضال الصعب.

استهداف المحاكم ومكاتب السجل المدني في مناطق مختلفة، بالقصف والنهب والسرقة والتدمير وإتلاف الملفات والسجلات[25] سوف يقود بالتأكيد إلى انهيار المنظومة العدلية والقضائية وضياع مصالح وحقوق المتقاضيين وفي ظل هشاشة أوضاع النساء القانونية قبل الصراع سوف تكون انعكاسات هذا الوضع كارثية على مصالح وحقوق النساء القانونية خاصة حقوقهن في ملكية الأراضي وتملك الوثائق الثبوتية وقضايا الأحوال الشخصية؛ مثل الميراث، والطلاق، والنفقة، وحضانة الأطفال، وغيرها من الحقوق والمصالح التي لا تحتمل التأخير.

العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي

استُخدِم العنف الجنسي والقائم على النوع الاجتماعي ضد النساء أثناء الصراع كنوع من أساليب إرهاب المدنيين وإذلالهم، بغرض السيطرة على المجتمعات المحلية، أو تخويفها أو لإهانة وإحباط الرجال الذين لم يتمكنوا من حماية النساء أو لإجبار المدنيين على الانتقال من مساكنهم إلى أماكن أخرى، خاصة وأن الصراع ارتبط باحتلال منازل المدنيين ونهبها، كما استُخدِم العنف الجنسي كنوع من الاستهداف العرقي للنساء بهدف تدمير هوية مجموعات عرقية معينة، مثلما حدث في دارفور. فقد أوردت تقارير صادرة من منظمات دولية وأممية[26]  إلى وقوع اغتصاب واعتداءات جنسية واستغلال جنسي وعنف جسدي في أثناء التهجّم على النساء في بيوتهن[27]. لم تقتصر الاعتداءات على النساء، بل طالت أيضاً القاصرات[28]، اللائي لا تتجاوز أعمار بعضهن 12 عاماً بينما بعض حالات العنف الجنسي وصلت إلى التعذيب والمعاملة الوحشية واللا إنسانية.

كذلك واجهت النساء مخاطر التحرش الجنسي والاغتصاب في مناطق النزوح واللجوء خاصة في ظل وجود النساء والفتيات من دون حماية، كما يحدث الاغتصاب للنازحات واللاجئات أثناء انشغالهن بالأمور الملحة؛ مثل العثورعلى الطعام والمأوى أو المدارس، أو مرافق المراحيض والاستحمام أو الأسواق. فالنازحون واللاجئون الذكور على الرغم من تهميشهم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إلا أن أغلبهم مازالوا يتمتعون بامتيازات ذكورية بالنسبة لنظيراتهم من النساء.

كذلك ارتبط العنف الجنسي أثناء الصراع بتنامي ظاهرة الاستهداف العرقي للنساء والفتيات؛ فقد وردت تقارير عن حالات خطف لنساء وفتيات ونقلهن قسراً لولايات أخرى، مع إخضاعهن لتعذيب وحشي. وأشارت بعض التقارير إلى تطور أشكال العنف الجنسي، لتشمل الاستعباد الجنسي والاتجار بالنساء[29]. كما لم تسلم المدافعات عن حقوق الإنسان والصحفيات والناشطات من العقاب، وقد تعرضن للاغتصاب أو التهديد بالاغتصاب لترهيبهن ومنعهن من القيام بعملهن[30].

ويعود تفاقم واشتداد استخدام العنف الجنسي مع استمرار الصراع لأسباب عديدة، أهمها  الاعتقاد الراسخ لدى الذين ارتكبو جرائم العنف بأنهم لن يتعرضوا للمحاسبة أو المساءلة عن ما ارتكبوه من جرائم، وأن بامكانهم الإفلات من العقاب هذه المرة كما أفلتوا من العقاب من قبل عن الجرائم والاغتصابات التي ارتكبوها في دارفور قبل أكثر من عشرين عاماً وفي مجزرة القيادة يونيو 2019، وكذلك لعلمهم التام بغياب سيادة حكم القانون أو وجود قوانين تحمي حقوق الأفراد وتحاكم الذين قامو بانتهاكها، وأن السلطة السائدة في البلاد هي سلطة من يملك السلاح.

ولا ينفصل ارتكاب جرائم العنف الجنسي على مستوى واسع في أثناء الصراع، عن وجود مزاج سائد متسامح مع العنف الأبوي ومع السياقات الثقافية التي تتماهى مع العنف ضد النساء بكافة أشكاله، وتعتبر أجساد النساء مساحة يرتع فيها المجتمع الأبوي بممارسات تعتبر أن التغول على أجساد النساء شيئاً عادياً، مثل الختان وزواج الطفلات والزواج القسري وبعض الممارسات العرفية الأخرى. كذلك لا ينفصل العنف الجنسي عن سياق التراث القانوني الذي يرسخ للتسامح مع العنف القائم على أساس النوع، فلا يمكن قراءة ما حدث من عنف جنسي بمعزل عن الواقع الذي أوجد قانون النظام العام لولاية الخرطوم 1996[31] أو السياسات والممارسات الأمنية التي تبيح استخدام العنف الجنسي ضد الناشطات والمعارضات السياسيات، وذلك مع تسامح الدولة وتماهيها مع العنف ضد المرأة، سواء عن طريق الممانعة عن سن قوانين تحمي النساء أو التخاذل في تطبيق القوانين الموجودة.

يمكن القول إن هناك تحديات حقيقية في الحصول على أعداد النساء والفتيات اللائي تعرضن للعنف الجنسي أثناء الصراع، خاصة وأن الحصول على إحصائيات موثوقة أثناء صراع جار وعنيف مثل الصراع الدائر في السودان أمر معقد جداً. وغالباً فإن الأرقام لا تعكس الواقع فالعنف الجنسي في السودان جريمة صامتة. كما أن الوصمة الاجتماعية والشلل الناجم عن الصدمة يُعقدّان التوثيق والإبلاغ، وخاصة في أجواء يسودها العنف الوحشي والترهيب وتفشي حالة انعدام القانون والتحديات الأخرى التي تواجه جهود الحصول على بيانات موثوقة مثل انهيار البنى التحتية، وإغلاق الطرق أو نقاط التفتيش التعسفية، واستهداف المرافق الصحية، مع ضعف الاتصالات، وصعوبات في تتبع الناجيات الذين فروا إلى البلدان المجاورة، والخوف من الانتقام الذي يعيق الناجيات من الإبلاغ والتحدث. يتفاقم الوضع أيضاً في ظل شعورالنساء الضحايا بعدم جدوى الحديث لما حدث لهن، حيث لا يستطيع أحد المساعدة أو الوصول إلى مرتكبي هذه الجرائم أو محاسبتهم في مناخ تسوده الفوضى والفظائع.

يلاحظ أيضاً في ظروف الصراع حيث تنعدم خدمات الطب الشرعي. وفي بعض الحالات التي يتم فيها الجمع بين العنف الجنسي والقتل (أو وفاة المرأة التي تعرضت للعنف الجنسي)، فغالباً ما يتم التغاضي عن العنف الجنسي أو عدم توثيقه بشكل صحيح أو الإبلاغ عنه في إحصاءات الوفيات أو الوثائق الطبية القانونية.

نقطة هامة هي غياب أو محدودية الدعم الصحي والنفسي والقانوني المقدم للنساء ضحايا العنف الجنسي. صعوبات خاصة تواجه النساء في حالة الحمل نتيجة للاغتصاب. وبرغم أن المادة 135 من القانون الجنائي السوداني لعام 1991، تمنح الناجيات الحق في إجهاض الحمل الناتج عن الاغتصاب حال لم يبلغ الحمل 90 يوماً، تبقى الاستجابة الإنسانية للاحتياجات المتنوعة للنساء اللاتي يواجهن حالة الحمل نتيجة للاغتصاب غير كافية، بل منعدمة في ظل عدم توفر إمكانية اللجوء إلى القانون بسبب تعطل المحاكم ومراكز الشرطة، أو التعقيدات الإجرائية التي تعوق في كثير من الأحيان إمكانية مساعدتهن.

إن تداعيات وتأثيرات العنف الجنسي ستمتد أمداً طويلاً حتی بعد انتهاء الصراع، وتتمثل في الصدمات النفسية والعصبية، والرفض من قبل الأسر والمجتمعات لحالات الحمل المفروضة قسراً، وللأطفال الذين يولدون جراء عمليات الاغتصاب، وفي الانتحار أو الانتحار الإجباري (تحت ضغط الأزواج أو أفراد من المجتمع). حتى بعد وقف الاقتتال يشكل المقاتلون من كل أطراف الصراع خطراً محدقاً على نسائهم، وعلى الفئات المجتمعية الأخرى، إذ يعاني معظم هؤلاء الأشخاص من الآثار العقلية والنفسية الناجمة عن أهوال الحرب، التي تنشئ لديهم نوعاً من أنواع العنف المرتبط باستخدام السلاح. وقد يُقدم هؤلاء على قتل النساء من أسرهم لأسباب هينة وبسيطة، ولكنهم في الغالب لا يحاسبون على ارتكاب مثل هذه الجرائم.

كذلك تتزايد احتمالات استمرار نهج العنف ضد النساء لعهود قادمة، حيث أن الأطفال الذين يقضون سنوات تكوينهم وهم يكبرون وسط صراع دموي وحشي غالباً ما يتتطبعون بالعنف، ويمارسونه على النساء والفتيات من حولهم. كما أن إعاقة حصول الأطفال على التعليم وجعلهم نهباً للتجنيد من قبل الجيوش والجماعات المسلحة والمليشيات القبلية، إضافة إلى أن التطرف ولغة العنف والكراهية ستظل تمثل أرضية وبيئة مواتية للعنف ضد النساء.

ومعلوم أن العنف الجنسي الذي يُرتكب لأسباب مرتبطة بالنزاعات المسلحة يعتبر جريمة حرب محظورة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م[32]، والبروتوكولين الإضافيين لعام 1977م، والقانون العرفي المعمول به في كل من النزاعات المسلحة الدولية. وبحسب القانون الدولي يتعين على حاملي السلاح الامتثال لقواعد القانون الدولي الإنساني، سواء كانوا ينتمون إلى القوات المسلحة الحكومية، أو الجماعات المسلحة المنظمة، أو قوات حفظ السلام. بالتالي فإن جرائم العنف الجنسي التي ارتُكتبت أثناء الصراع ترتبط بشكل أساسي بانعدام حكم القانون، الذي سمح بفوضى تكوين الجيوش والجماعات المسلحة القبلية والمليشيات، مما يدفع بأسئلة أساسية حول مدى التزام الجيوش الرسمية وغير الرسمية في السودان بقواعد القانون الدولي الإنساني.

هناك ملاحظات أساسية حول العنف الجنسي الذي وقع في أثناء هذا الصراع:

الملاحظة الأساسية هي ورود تقارير عن دخول أنماط جديدة من العنف الجنسي مثل الاستعباد الجنسي والاتّجار بالنساء والبغاء القسري والاختطاف، مما يعد تطوراً خطيراً في جرائم العنف الجنسي في أثناء الصراع في السودان[33].

ملاحظة أخرى وهي أنه، وبرغم أن الوصمة تجاه جرائم العنف الجنسي ما زالت منتشرة ومتمكنة في السياق الاجتماعي والثقافي السوداني، إلا أن حاجز الصمت تجاه العنف الجنسي قد انكسر مع تواصل أمد الصراع. أيضاً انتظمت حملات تضامن واسعة مع النساء ضحايا العنف الجنسي داخل وخارج السودان. [34]

ملاحظة أخرى، أن قضية العنف الجنسي في أثناءالصراع أصبحت مسيّسة لدرجة كبيرة، إذ تسعى بعض أطراف الصراع للاستفادة من جرائم العنف الجنسي ضد النساء التي ارتكبتها الجماعات الأخرى كمكاسب سياسية لها، مما يعني “تشييء” معاناة المرأة “وتسليعها” الشئ الذي ربما يؤثر على حصول النساء على العدالة والإنصاف.

غضب ورفض:

دخل الصراع في السودان شهره التاسع ولا يزال المدنيون من جميع أنحاء البلاد يتحملون وطأة الأعمال القتالية العسكرية والممارسات غير القانونية لأطراف الصراع الواسع والمركب التي دمّرت حياة ملايين السودانيين، وأدت إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان يمكن أن يصل بعضها إلى جرائم الحرب. جرى كل ذلك في ظل غياب أي مؤشرات حقيقية إلى أن الصراع سوف يضع أوزاره قريباً أو أفق لحلول سياسية ناجعة، وذلك في وجود عدة سيناريوهات لا يستبعد أحدها الأخرى، بل تقع جميعها ضمن حدود الممكن.

بالطبع فإن آثار الصراع الحالي على البلاد بشكل عام جسيمة ومدمرة وكارثية وطويلة المدى، ومن الراجح أن الصراع سيقود لتغييرات عميقة في علاقات القوة، بما فيها علاقات وأدوار النوع الاجتماعي، بما يرسم حدود اجتماعية جديدة في نمط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

يتباين تأثر النساء بالصراع حسب انتماءاتهن وخلفياتهن الطبقية والثقافية والسياسية والجهوية فالنساء الفقيرات والأكثر هشاشة اقتصادياً واجتماعياً، خاصة النساء ضحايا تجربة الصراعات المسلحة السابقة، هن الأكثر تأثراً بالصراع، لا سيما مع غياب حماية الدولة وتقاعس المنظومة السياسية عن تقديم العدالة والإنصاف لقضاياهن.

وبالنظر إلى آثار الصراع على علاقات وأدوار النوع الاجتماعي، لابد من التأكيد على أن الصراع هو نتاج طبيعي لذهنية غيبت منظور الفهم الاستراتيجي للمواطنة والمساواة بما فيها المساواة على أساس النوع الاجتماعي في سياسات الدولة لعهود طويلة. أتاحت هذه الذهنية الفرصة لتفشي العنف بأشكاله المختلفة على كافة المستويات.

وعلى الرغم مما هو غالب في حالات النـزاع، من النظر إلى النساء باعتبارهن فئـة تتسم بضعف خاص أمام الأخطار، إلا أن النساء في السودان لم يكنّ مجرد ضحايا أو مُستقبلات سلبيات للصراع، فقد قاومن بجدارةٍ، وبرهنّ في كثير من الأحيان على قدرة مذهلة، وبراعة ملحوظة في مواجهة شدائد الصراع.  بل أصبحت النساء أثناء الصراع الزعيمات الحقيقيات على أرض واقع معقد ومسور بالسلاح والعنف، حيث لعبن أدواراً نشطة في التصدي للانتهاكات وحماية ورعاية مجتمعاتهن. هذه الأدوار زادت من ثقة المجتمعات التقليدية بقدرات النساء وفي الاعتراف بهن كقائدات حقيقيات.

أجج العنف الذي وقع على النساء ووصل حد الهجوم عليهن في منازلهن وملاذاتهن الآمنة الغضب والرفض في أوساط النساء، لجسامة القهر الذي تعرضن له. تبلور هذا الغضب والرفض في حراك نشط انخرطت فيه آلاف بل ملايين النساء والفتيات السودانيات، داخل وخارج البلاد، من خلال مبادرات ومجموعات عمل نسوية ومدنية وقاعدية، وبالتالي تشكلت على مدى الشهور الماضية حركة نشطة قوامها النساء والمناصرين الذين انخرطوا في ذلك الحراك.

لذلك يمكن القول إن الظلم والغبن الذي استشعرته النساء في أثناء الصراع قد خلق وعياً نسوياً سائلاً لا يزال في قيد التشكل، حيث تم توظيف الانتهاكات التي طالت النساء كمدخل للوعي النسوي، الذي قاد إلى تثوير حقيقي لقضايا النساء وسوف يشكل قوة دفع كبيرة لمشاركة حقيقية وفاعلة للنساء في الفعل السياسي. كذلك كشف الحراك عن أفق وشفق جديد للتضامن بين النساء السودانيات بخلفياتهن المختلفة ضد القهر والانتهاكات، وفتح الباب لمشروع تغيير حقيقي تقوده النساء وفق أجندة نسوية ناصعة.

مشاركة النساء في وقف الصراع:

يُعد الصراع الدائر حالياً في السودان صراعاً معقداً وشائكاً وذو أبعاد كثيرة، بالتالي فان وقف الصراع عملية صعبة وشاقة وتواجهها تحديات كثيرة يتعلق بعضها بتعقيد واقع الصراع نفسه والاصطفاف السياسي والجهوي والإثني والإيدلوجي خلفه.

بالرغم من قوة الدفع العالية والمناداة المستمرة لجموع السودانيين اللذين يعايشون ويكتوون يومياً بنيران الصراع، وأولهم النساء، للوقف الفوري الصراع، إلا أنه وإلى الآن لا توجد نتائج محسوسة لمجهودات وقف الصراع. هذا مع التطورات اليومية لمسار الصراع على أرض الواقع وتوسع رقعتة الجغرافية إلى مناطق وولايات كانت تعتبر ملاذاً آمناً للنازحين مع   التدهور اليومي لأوضاع حقوق الإنسان وحقوق النساء، واستمرار الفظاعات والانتهاكات الخطيرة. ومن بين تلك الانتهاكات قصف المدنيين والقتل غير المشروع للنساء والرجال والأطفال، واغتصاب واختطاف النساء، والتهجير القسري للمدنيين ونهب وتدمير الممتلكات.

هذا مع استمرار المحاولات لوضع العراقيل أمام قيام حركة جماهيرية أو شعبية موحدة لوقف الصراع، وغياب تام للمعلومات المتعلقة بمنهجية العمل التي سيتم اتباعها من قبل المبادرات المحدودة لوقف الصراع. وكل المعلومات المتوفرة تشير إلى اقتصار منهجية العمل التي سيتم اتباعها لوقف الصراع على تصورات معزولة لأطراف الصراع تقفز فوق أصحاب المصلحة الحقيقيين، ولا تستصحب الواقع أو رؤى المدنيين – الضحايا المباشرين للصراع – وخاصة النساء. كذلك يشئ باقتصار الحلول التي يمكن الوصول إليها لوقف الصراع على التعامل الأمني في ظل انعدام الشفافية، أو إدراج عناصر المحاسبة على الجرائم والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.

مشاركة النساء في مجهودات وقف الصراع تواجه نفس التحديات التي تواجه مشاركة المدنيين. كذلك صعوبة أو استحالة إمكانية العمل المدني في أجواء ما زال يسيطر عليها القتال والعنف والدمار بكافة أشكاله، وانعدام الأمن، وتقييد الحريات الأساسية، وصعوبة الحركة والتنقل والوصول إلى الخدمات والمعينات اللوجستيية. إضافة إلى صعوبة الوصول إلى المعلومات، والتي هي في الغالب معلومات ذات طابع عسكري.

على الرغم من أن هذا التحدي يواجه كل المدنيين، إلا أن النساء، وبحكم وضعهن في التراتبية الاجتماعية، يواجهن صعوبات إضافية. على سبيل المثال؛ إن مشاركة المرأة السياسية في الأصل هي مشاركة منخفضة؛ بالتالي لا يملكن سلطة اتخاذ القرار على مستوى المؤسسات السياسية. كذلك هناك صعوبات إضافية ربما لا تتوافر للنساء القدرة على إجراء تدابيرالحماية، كذلك صعوبات تتعلق بأدوار النساء في رعاية الأسرة، خاصة في مناطق النزوح واللجوء.

إن النساء السودانيات وبحكم خبرتهن الحياتية في العيش في مجتمعات تسودها النظرة الذكورية، يدركن تماماً أن مشاركتهن في محادثات وقف الصراع المسلح تعني مشاركتهن في محادثات مفصلية، ترتبط بكسر البنية الهرمية والسلطوية للنفوذ العسكري. مع ذلك تستمر مجهودات النساء من أجل ضمان مشاركتهن في مجهودات وقف الصراع، واختيار المداخل الصحيحة لتضمين قضايا النوع الاجتماعي في اتفاقات وقف الصراع. خاصة إن النفوذ السياسي المحدود أو المنعدم للنساء على أطراف الصراع، والذي هو أصلاً صراع مسلحٌ تسُود فيه عقليةٌ ذكوريةٌ عسكرية، يعرقل مشاركة النساء. مع العلم بإنه وإلى الآن لا توجد معلومات حول مفاوضات يمكن أن يشارك فيها المدنيين في وقف الصراع. كما أن تعدد الفصائل والمليشيات الإيدولوجية والقبلية يؤدي إلى تضييق فرص مشاركة النساء في عمليات وقف الصراع.

وتتطلب المشاركة الفاعلة للنساء أن تكون القيادات السياسية والمدنية ذات إيمان حقيقي بأهمية مشاركة النساء، والاستعدد لإفساح المجال لهن وإعطائهن الأولوية في الانضمام للمفاوضات. ليس خافياً أن النساء غالباً ما يتعرضن لصعوبات أثناء مشاركتهن في محادثات السلام، حتى من قبل القوى المدنية نفسها، مثل محاولات التنميط، أو ممارسة الضغوط على النساء للقبول بتمثيل نخبوي أو شكلي، أو محاولات التشكيك في مقدرات ومهارات النساء. كذلك هناك محاولات من بعض القيادات السياسية للتدخل لجعل مشاركة المرأة في المفاوضات قائمة على الانتقائية من جانب تلك القيادات؛ مما يؤدي إلى أن يكون تمثيل المرأة صورة أخرى للأصوات الذكورية أو يغمط النساء حقهن الطبيعي في التنوع والاختلاف مثلهن في ذلك مثل الذكور.

مجهودات النساء للمشاركة من أجل إنهاء الصراع يجب أن تبنى على إدراك عميق على أن العمل من أجل وقف الصراع، خاصة في ظل درجة التصعيد السائدة حالياً، هو عمل طويل يلمس طبيعة الإقصاء والتمييز والظلم وعدم المساواة والعنف الهيكلي.

نقاط أساسية حول مشاركة النساء في وقف الصراع:

– إن النساء في مشاركتهن في المفاوضات لا يمثلن كتلةً واحدةً ذات مصالح متجانسة، بل يمثِّلن مصالح اجتماعية وسياسية وتفاوضية متفاوتة، ومن المهم أن تؤخذ في الاعتبار الهويات العرقية واللغوية، خاصة وأن الصراع الحالي ذو أبعاد جهوية وقبلية وإيدولوجية. وتتخذ النساء مواقف متباينة من أطراف الصراع، مع الانتباه إلى ما ظلت تتعرض له النساء من استقطاب حاد مثل محاولة تجييش النساء أو استقطابهن لدعم طرف من أطراف الصراع المسلح.

– بما أن المجتمع المدني بمعناه الواسع العريض، بما فيه من أحزاب سياسية، يمثل الحاضنة الرئيسة للحراك النسائي في السودان، بالتالي العمل من أجل إيقاف الصراع يتطلب من الأحزاب صياغة رؤية متكاملة لتعزيز مشاركة المرأة في مجهودات وقف الصراع، كما   يتطلب أيضاً من الأحزاب إعمال النظر الدقيق في واقع ما بعد الصراع وتجربة الصراع نفسها وما فيها من دروس.

–  مشاركة النساء في المفاوضات لا تعني أن النساء مسؤولات عن قضايا المرأة فحسب، بل ينبغي أن تُفهم هذه المشاركة بأن النساء هن صانعات القرار بشأن النطاق الكامل للقضايا التي تتضمنهاعملية الوصول إلى سلام، مع التأكيد على أن تحظى قضايا النساء والنوع الاجتماعي بأولوية النقاش في كافة المحاور، وأن تتضمن الاتفاقات النقاط المتعلقة بالتحقيق في جرائم العنف الجنسي التي وقعت على النساء، وكافة الأفعال التي تشكل انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني أو جرائم حرب ضد النساء. مع ضرورة تضمين التدابير اللازمة لمنع تكرار الصراع المسلح وعدم إفلات الجناة من العقاب، وإعمال العدالة الانتقالية من منظور النوع الاجتماعي، بما فيها التعويضات وجبر الضرر.

– تعتمد فعالية المشاركة على التنسيق المشترك بين المجموعات النسائية، للتوافق حول القضايا الأساسية والتحضير الجيد للمحادثات، مع ضرورة تفادي العمل المنعزل، بل بذل الجهد لجعل قضايا النساء وعدالة النوع الاجتماعي أولوية للجميع، والاستفادة من كافة الأطر الدولية والإقليمية لترقية مشاركة النساء في السلام، مثل قرار مجلس الأمن رقم 1325عن النساء والسلم والأمن.

– أهمية أن يتم الالتزام والعمل على مشاركة النساء بما لا يقل عن 50% في جميع مراحل المفاوضات، بما فيها مرحلة المشاورات التمهيدية السابقة للمحادثات، ومشاورات وقف إطلاق النار المؤقت قبل الرسمية، والمشاركة في ترتيبات ما بعد الوصول إلى اتفاق، وضمان وجود فريق من الخبراء في النوع الاجتماعي في المفاوضات لضمان إدماج النوع الاجتماعي في الاتفاقيات الأساسية والفرعية ومراحل ما بعد الصراع المسلح والإنعاش والإعمار وفق رؤية تراعي النوع الاجتماعي.

-ا إعطاء الأولوية لقضية المحاسبة ودعم فتح تحقيقات فورية وشاملة ومحايدة ومستقلة بشأن الانتهاكات الجسيمة والخطيرة للقانون الإنساني الدولي، ومحاسبة مرتكبي تلك الأفعال. مما يعني ضرورة تضمين التدابير اللازمة لمنع تكرار الصراع وعدم إفلات الجناة من العقاب وقف إهدار العدالة واعمال العدالة الانتقالية من منظور النوع الاجتماعي بما فيها من تعويضات تطال النساء اللاتي انتهكت حقوقهن.

خاتمة

على الرغم من أن إراقة الدماء الوحشية لم تنحسر بعد، إلا أن هناك إجماع من كل الحادبين على مستقبل السودان بضرورة وأولوية العمل على وقف الصراع.

إن تداعيات الصراع المباشرة على النساء سوف تظل باقية في أرواح وأجساد وذاكرة النساء لأجيال وعقود قادمة، وسوف يتواصل تحديثها باستمرار مع اتساع رقعة الصراع وتزايد وتيرة الانتهاكات، وتواصل عمليات النزوح واللجوء طويل الأمد والهجرة والشتات وفقدان التماسك والأمن الاجتماعي كذلك مع استمرار تفشي مظاهر الغبن والانقسام الاجتماعي وافساح المجال لتجليات القبلية والعنصرية.

بلا جدال فإن مهمة تجاوز الصراع المسلح الحالي في السودان مهمة صعبة وشاقة وطويلة، خاصة وإن الصراع مركب ومتعدد الأقطاب؛ كذلك ينطوي جلبابه الواسع العريض على العديد من الصراعات الخفية التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة.  أيضا فإن تطاول أمد الصراع يمكن أن يقود العديد من الاحتمالات الكارثية مثل التحطم التام للبنية التحتية وتفكك وحدة البلاد وانفراط عقد الدولة وغيرها.

للنساء السودانيات تجارب مع اتفاقيات سلام سابقة توصلن من خلالها إلى قناعة تامة من أن الوصول إلى اتفاقات سلام عسكرية أو سياسية تحوي نصوصاً براقة لاقتسام السلطة والثروة والترتيبات الأمنية، أو تحتوي على نصوص دستورية زاهية عن حقوق الإنسان والمرأة لا يعني بأي شكل من الأشكال انتهاء الصراعات المسلحة، بل إن الصراعات سوف تظل مستمرة ما دامت الأسباب الهيكلية التي أنتجتها موجودة. كذلك فإن النساء يدركن أن معاناتهن مع الانتهاكات وجرائم العنف الجنسي التي تم ارتكابها في أثناء الصراع لن يتم القضاء عليها بمحاكمة اللذين ارتكبوا تلك الجرائم فقط، بل بتوثيق الانتهاكات ودعم لجان التحقيق الوطنية والدولية المستقلة، وضمان وصول النساء في كل السودان الي اليات العدالة الدولية مع ضرورة مجابهة قضايا الإصلاح الأمني والعسكري.

يعدٌّ عمل النساء من أجل وقف الصراع أيضاً تطوراً نوعياً في مشاركة المرأة في العمل العام والفعل السياسي، حيث اتخدت مشاركة المرأة طابع العمل الجماعي الواسع ولم تكن مجرد مُشاركةً رمزيةً محصورةً في أعداد قليلة من النساء، أو في نساء ذوات انتماء طبقي أو سياسي أو جغرافي أو عرقي محدد.

إن الصراع قد مس النساء بمختلف خلفياتهن، وبالتالي فإن العمل من أجل وقف الصراع يمثل مرحلة جديدة من الانعتاق السياسي للمرأة، ويدعم منهج المشاركة الواسعة في العمل العام والسياسي، وبالتالي فإن الظرف يتطلب من النساء التصدي لمحاولات حصر دورهن في الدعوة لوقف الصراع بمفردات تخلو من العمق، بل يستوجب  تطوير رؤيةٍ نسويةٍ محددةٍ وواضحةٍ من أجل إنهاء الصراع وطرح برامج وأجندة عمل مرتبطة بواقع وتحديات ما بعد الصراع ومساهمة النساء في تصحيح أخطاء الممارسة السياسية التي أدت إلى اندلاع الصراع الحالي وغيره من الصراعات.

 

 

[1] كاتبة وخبيرة في مجال حقوق الانسان والنوع الاجتماعي

1 https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%D8%B4%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D9%83%D8%A7%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86_2023

[3] https://www.alhamish.com/%E2%80%8F%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%85%D8%B3-%D8%A3%D9%83%D8%AB%D8%B1-%D9%85%D9%86-160-%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%AB-%D8%A8%D9%87%D8%A7-123-%D9%85%D8%AC%D9%85%D9%88/

[4] http://www.sudanbaath.20m.com/diffunity.htm

[5] https://www.bbc.com/arabic/middleeast-64790515

[6] https://www.alhamish.com/%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%81%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%AF-%D9%85.

[7] https://www.unicef.org/sudan/ar/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%A7%D9%87-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AD%D9%8A-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%81%D8%A9

[8]https://www.aa.com.tr/ar/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B1%D8%A7%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D9%85%D8%AA%D9%89-/2727235

[9]https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D9%88%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%86_%D8%B3%D8%A8%D8%AA%D9%85%D8%A8%D8%B1_1983%D9%85.

[10] https://www.google.com/search?client=firefox-b-d&q=%D9%86%D8%B5+%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9+%D8%A7%D9%84

[11] https://www.dabangasudan.org/ar/all-news/article/

[12] https://www.dabangasudan.org/ar/all-news/article/%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%BA%D8%B0%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B2%D8%B1%D8%A7%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D9%88-6-%D9%85%D9%84%D8%A7%D9%8A%D9%8A%D9%86

[13] عدم المساواة بين الجنسين في السودان – ويكيبيديا (wikipedia.org)

[14] https://www.sudaress.com/sudantribune/25707

[15]  https://www.hrw.org/ar/report/2015/01/19/267959

[16] https://www.ohchr.org/ar/statements/2015/05/special-rapporteur-violence-against-women-finalizes-country-mission-sudan

[17] https://www.reuters.com/article/oegtp-sudan-darfur-rape-ar5-idARAKBN0LF25X2015021

[18] https://www.sudaress.com/sudantribune/25707

[19]

[20] .https://news.un.org/ar/story/2023/05/1120272

[21]

[22] [22] https://www.youtube.com/watch?v=orPb8PfxE3o

[23] https://aawsat.com/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%81%D8%B1%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A7/4350571-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%B6-%D8%A3%D9%88-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%AF%D8%A7%D9%86

[24]Sudan | Situation Reports (unocha.org)

[25] القانونية من يقف وراء استباحة المحاكم السودانية وتمزيق الملفات؟ (alarabiya.net)

[26] https://www.google.com/search?client=firefox-b-e&q=un+ex%5Berts+om+rape+in+sudan++

[27] https://al-akhbar.com/Arab/367910

[28] https://www.bbc.com/arabic/interactivity-66565844

[29] http://www.acjps.org/ar/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D9%81%D9%8A-%D8%AE%D9%88%D8%B1-%D8%AC%D9%87%D9%86%D9%85/

[30] http://www.acjps.org/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%86%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%88%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%A7%D8%B9%D9%8A-%D8%A3%D8%AF%D8%A7%D8%A9/

[31]  قانون النظام العام (السودان) – ويكي مصدر (wikisource.org)

[32] https://www.icrc.org/ar/doc/resources/documents/misc/5nsla8.htm

[33] تقرير حول الاستعباد الجنسي في خور جهنم – African Centre for Justice and Peace Studies (acjps.org)

 

[34] مدافعات حقوقيات يطالبن المجتمع الدولي بالتحرك لحماية النساء السودانيات من العنف الجنسي | أخبار الأمم المتحدة (un.org)

[ad_2]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى