السياسة السودانية

السودان وكينيا: إن لله جنوداً من شاي

[ad_1]

في نيفاشا كانت الضغوط تتزايد على السودان للتوقيع على صيغة ظالمة لإتفاق الترتيبات الأمنية مع الجيش الشعبي لتحرير السودان واستاء السودانيون من موقف المبعوث الكيني الجنرال لازاراس سيمبويويو وحكومته خلال عملية الوساطة.

أخرج السودان إحدى بطاقاته القوية، وأصدرت إدارة الجمارك أمراً مشدداً بأن يلتزم جميع مستوردي الشاي إلى البلاد بتقديمه في عبوات (واحد كيلو جرام) فقط.

على الفور تراكمت شحنات الشاي الكيني في ميناء بورتسودان وترتبت عليها رسوم تخزين عالية وفي ظرف عدة أسابيع كان هناك ما يزيد عن ال٦٠ ألف طن من المحصول النقدي الغالي الثمن مهددة بالتلف، أو العودة إلى بلد المنشأ، أو قرار سياسي.

كسدت البضاعة الثمينة، والشاي هو الصادر الكيني الأول والمصدر الأكبر للنقد الأجنبي في البلاد. تعرضت الصناعة والعاملين فيها لضغوط المصارف المحلية وازدياد تكلفة الإنتاج وخسارة المنافسة العالمية.

الخرطوم كانت تلعب بطاقتها جيداً وكينيا أدركت قانون اللعبة. لم يرسل الرئيس الراحل مواي كيباكي وزير التجارة إلى الخرطوم، وإنما بعث طائرة خاصة تحمل وزيري الدفاع والتجارة إلى الخرطوم للقاء الرئيس السابق عمر البشير.

موضوع الشاي ليس موضوعاً تجارياً بين بلدين وإنما هو موضوع أمن قومي خصوصاً إذا كان الطرف الثاني هو أحد أكبر المستوردين الخمسة للشاي الكيني الذي يواجه منافسة هائلة من المنتجات الآسيوية الأكثر قدرة على التسويق والتنافس.

يعلم خبراء التسويق أن مثل هذا النوع من البضائع إذا خسر سوقاً فإن من العسير عليه إن لم يكن المستحيل العودة، وإن إمكانية الدخول إلى أسواق جديدة قد يتطلب بيع البضاعة بأقل من ثمنها لسنوات عديدة قبل أن تكون قادرة على تحقيق الأرباح.

الأسواق الغربية باتت مستحيلة مع نشوء سلاسل التسويق الضخمة. لتقريب الصورة فقط فإن سلسلة (ستاربكس) تملك ما يزيد عن ال٣٠ ألف مقهى حول العالم وتبغ قيمة الشركة ما يزيد عن ال١٣ مليار دولار ويتسابق رؤساء الحكومات في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا على التقرب من موظفي الشركة لتقديم منتجات بلادهم فيها. كل هذه المقاهي تستخدم أنواعاً محددة من المنتجات ومن المستحيل أن تقبل ببضاعة جديدة إلا إذا كان الأمر مغرياً للغاية.

في الخرطوم كان الرئيس السابق البشير يملي شروطه والوفد الكيني يستمع وبعد أيام أحكم وزير التجارة والصناعات الكينية موكيسا كيتويي ربطة عنقه وجلس أمام الصحفيين ليبلغهم بأن وزارته قد نجحت في الحصول على موافقة السودان لمنح الشاي الكيني استثناء من إجراءات الجمارك الجديدة لبضعة أشهر، وفي بورتسودان بدأ الإفراج عن الكتل الضخمة من البضاعة التي كادت أن تتلف.

انتصر السودان في تلك المعركة دون أن يطلق رصاصة واحدة لكن عجز حكومة الإنقاذ الذي فتك بها كان في إعلامها القاصر الذي كان يغفل الأحداث المهمة ويروج للساسة الفاسدين.
***
منذ اندلاع الحرب في الخرطوم في أبريل الماضي ظل الحزام الأفريقي المحيط بنا يئن بصوت عالٍ، وكلما أطلقت رصاصة في الخرطوم أصيبت أديس أبابا ونيروبي وكمبالا وجوبا بالصداع المؤلم والحمى.

خسر ما يقارب ال١٠٠ ألف من الإثيوبيين -وفق تقديرات غير رسمية – أعمالهم الصغيرة ومصادر رزقهم. وفي كمبالا بينما كان الدكتاتور العجوز يوري موسيفيني يجلس تحت الشجرة مستقبلاً لموفد زعيم التمرد في الخرطوم، كانت الأسواق تبكي بصوت عالٍ بسبب توقف صادرات البن اليوغندي إلى السودان. السودان هو ثاني أكبر مستورد للبن اليوغندي في العالم بعد الإتحاد الأوروبي.
لكن ليوغندا دفتر حساب منفصل، فلندعها الآن.

(٢)
من الواضح أن الرئيس الكيني الجديد ويليام روتو، لم يجد الوقت الكافي ليقرأ ملفات دانيال آراب موي، ومواي كيباكي، وإن رئيسه السابق أوهورو كينياتا لم يكن يطلعه على كل شيء لذلك فإنه يتبجح الآن مدفوعاً بصداقته مع رجل الأعمال مو إبراهيم ورئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك في الافتراء على السودان.

الرئيس الكيني لا يتصرف في عدائه ضد السودان وموالاته للتمرد كرجل دولة راشد يراعي مصلحة بلاده، وإنما يتصرف كتاجر تصادف وجوده في دار الرئاسة الكينية، وهو بهذا يبحث عن وسائل لتحقيق المكاسب لتجارته دون عناية بتجار الشاي ومزارعيه وحاصديه وحامليه على ظهورهم في المزارع وفي أسواق مومباسا ومينائها.

لقد خان ويليام روتو الفقراء من مواطنيه الذين أفلت من الانتماء إليهم بأعجوبة إذ صار رجل أعمال وسياسي ورئيس للبلاد. خان روتو الأيام التي كان يذهب فيها إلى المدرسة حافي القدمين (حصل روتو على أول حذاء شخصي حين بلغ ال١٥ من عمره) وخان السنوات الطويلة التي كان يقف فيها على جانب الطريق في قريته الصغيرة وهو يعرض على العابرين البيض والفراخ.

كان أولى به أن يتذكر أن جني الشاي هو أحد أكثر المهن مشقة في الزراعة وأن الذين يعملون في هذه المهنة الشاقة قد تتأخر استحقاقاتهم وربما فقدوا مصدر رزقهم الوحيد وهو يقف مع المتمردين ضد بلد يوفر له سوقاً مضمونة وثابتة منذ عقود طويلة.

السودان الذي قال شاعره المجيد محجوب شريف في قصيدة مهيبة (نحنا بنحب شاي الصباح/ والمغربية مع الولاد/ والزوجة/ والأم الحنون/ والأصدقاء/ وإلى اللقاء) ثاني أكبر مستورد للشاي الكيني في أفريقيا بعد مصر، ومنذ حرب أبريل الماضي هبطت واردات السودان من فهبطت الصادرات الكينية منه بنسبة ٢٦٪ عن المعتاد. هذه ليست معلومات سودانية وإنما هي معلومات كينية رسمية نقلتها صحيفة (إيست آفريكان) الصادرة يوم ١٤ يونيو الحالي.

في الوقت الذي تتراجع فيه مؤشرات الأداء الاقتصادي الكيني ويخسر (الشلن) الكثير من قيمته دون حرب أمام الدولار الأمريكي، يضيف الرئيس الكيني عبئاً جديداً على مواطني بلاده بالمخاطرة بحلفائه التجاريين التقليديين في منطقة شرق أفريقيا التي تسعى للمزيد من تمتين الروابط الاقتصادية عبر محاولات متعثرة لإنشاء تكتل اقتصادي يحقق مصالح السكان.
هناك الكثير عن كينيا مما يمكن كتابته عن فقر المواطنين وتراجع حظوظهم في الترقي الاقتصادي والاجتماعي في ظل نظام سياسي فاسد يفرز الرؤساء على أساس قبلي يتم اقراره غربياً وفقاً لمصالح ما يقل قليلاً عن خمسين ألف مواطن غربي يحملون الجنسية الكينية ويستأثرون بثروات البلاد ويقيمون تحالفات معقدة مع الحكام دون أن يشارك ولا مواطن واحد منهم في المشهد السياسي العام.

على صعيد آخر توقفت شركة الخطوط الجوية الكينية ضمن الخطوط العاملة في السودان وعبره مع الخطوط الإثيوبية وغيرها، لكن خسارة الخطوط الكينية أكثر فداحة وهي التي ظلت تسجل خسائر متتالية بالرغم من شراكتها مع العديد من الشركات العملاقة في صناعة الطيران.
ليس بعد، فقد جأر رجال الأعمال الكينيون العاملون في سوق جنوب السودان الرابح من الحرب بعد أن تعطلت وارداتهم عن طريق ميناء بورتسودان. بعبارة أخرى فإن الحرب في السودان تضرب الاقتصاد الكيني داخل البلاد وخارجها فبأي حيثية يؤيد الرئيس روتو المتمردين؟

لقد وضعت حرب السودان الاقتصاد الكيني أمام اختبار قد يصعب النجاح فيه في المستقبل دون تغيير جوهري في السياسات، وإذا عجزت الدولة السودانية عن استخدام مثل هذه البطاقات في حماية الأمن القومي فإن الخيار سيكون أمام القوى السياسية التي ستفرزها مرحلة ما بعد الحرب لرعاية المصالح الوطنية.

إن الظروف الحالية للسودان غير مواتية لاتخاذ قرارات استراتيجية من نوع إعادة تأسيس العلاقات مع دول الجوار على أساس المصلحة، لكن هذه مساهمة للتأكيد على إن الحاجة إلى ربط السياسة الدفاعية للسودان بالإستراتيجيات غير العسكرية ضرورة ملحة أفرزتها الحرب الدموية التي تدار بأيدي أجنبية في الخرطوم، ومن الطبيعي أن تصنيف الأعداء في وقت الحرب ينبغي ان يظل كذلك في وقت السلم، والبادي أظلم.

محمد عثمان إبراهيم
محمد عثمان ابراهيم

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى