السياسة السودانية

جعفر عباس يكتب.. وباح الزير المدفون بالسر

لم يكن في قسم السرايا في سجن كوبر ما يجعلك تحس بأنك معتقل، فالبرنامج اليومي حافل بالنشاط الثقافي والترفيهي، وكان كثيرون من حولنا من كبار السن ولديهم عيال واحفاد وكانوا متماسكين وصامدين، ولكنهم حكوا لنا عن مجموعة المنافقين الذين هللوا لانقلاب هاشم العطا فزجوا بهم في السجن، فصاروا من فئة “أندب حظي أم آمالي/ دهري قصدني مالو ومالي”، ويرسلون برقيات التوسل لحكومة نميري، فقال فيهم الموسيقار الراحل جمعة جابر: الزول أتكّا في حائط مبكى/ التور اب دبره كرعينو ستة/ ناس داخلين وناس مارقين/ ورافع الراية تقول لينين/ وقت الحارة جاتنا تارّة/ قال الروب واتغطى بالتوب
وحكى معتقلون كانوا في قسم الشرطة الشمالي في الخرطوم قبل نقلهم الى سجن كوبر ان الشرطة أتت بشخص سكران ليلا وحبسوه معهم، وظل الرجل يصيح: راسي.. راسي يا حرامية يا أولاد الكلب، واتضح انه- وكان ذلك فور فشل انقلاب هاشم العطا وفرض حظر التجول ليلا- كان قد سكر في مكان ما واشترى راس خروف محمر وحمله معه ليتعشى به في البيت، عندما حاولت دورية إيقافه في الشارع فهرب منهم وهو يحسب انهم عصابة تريد سرقة راس الخروف، ودخل مقابر فاروق فاشتدت المطاردة بحسبان انه ربما يحمل قنبلة، واثناء الجري وسط المقابر سقط منه راس الخروف وضاع وتم اعتقاله، وفتش الشرطة عن القنبلة الافتراضية بلا طائل، وانتهى الأمر بأن قرروا حبسه لاستجوابه لاحقا، ووجد المسكين نفسه في محبوسا في مخفر الشرطة ولكن لم يكن معنيا بحريته بل يبكي راس الخروف الذي حسب ان الشرطة سرقته
كنا نحن شباب المعتقلين نقيم في خيمة في الطرف الشرقي من السرايا عندما قررنا إعداد شربوت بعد ان صار عندنا مخزون ضخم من التمر الجاو (نوع لا يصلح للأكل)، فسرقنا زيرا كبيرا ووضعنا فيه التمر والماء المغلي ودفناه بعد إحكام إغلاقه، ثم فرشنا فوقه برش وفراش أحدنا، على أن نفتحه ونشرب محتواه مساء اليوم التالي، ولكن بعض الظروف حتمت فتح الزير في اليوم الثالث، وكرعنا منه ما تيسر وكان باديا أن العصارة أوشكت على إكمال الاختمار، فقررنا تغطية الزير ونسيان أمره تماما، وصبيحة اليوم التالي جلسنا كالعادة في طابور التمام الصباحي، ولكن كنا جميعا قد اصبنا بنوبات اسهال حادة وظللنا نهرب من الطابور الى الحمامات بالتناوب وأحيانا يصرخ أحدنا فيمن سبقوه الى الحمام: يا خينا اطلع خلاص الوضع لا يحتمل.
ثم فوجئنا في نهار ذلك اليوم بلجنة المعتقل تقترح اضرابا جديدا عن الطعام للمطالبة بتزويدنا بأجهزة راديو وتلفزيون وصحف، فقلت لهم: ليه ما نطالب بالمرة بآيسكريم وكيك وكريم كراميل .. كنت أعني اننا في سجن سوداني وليس سويدي حتى نشطح في المطالب وجمعت جماعة الخيمة وقلت لهم إنني من سلالة “فقرا” وطلبت منهم ان يرفعوا أيديهم بالدعاء معي بحق لجنة المعتقل: اللهم فرق كلمتهم وشتت شملهم واجعلهم ينقلبون على بعضهم البعض، ولكن اقتراح الاضراب فاز بالأغلبية، ثم وفي عصر نفس اليوم جاء شاويش رشاد وتلا أسماء المفرج عنهم وكنت من بينهم
بسبب الركض الأولمبي الى الحمامات من جماعة الخيمة في ذلك اليوم، أدركت إدارة السجن ان الحكاية فيها إن، وقلبوا الخيمة فوق تحت وكانت رائحة البتاع الذي في الزير تبقبق من تحت التراب، واسفرت عملية النبش عن اكتشاف الزير الملغوم وحمله العساكر وطافوا به كل الأقسام وهم يقولون: شوفوا المناضلين قلبوا السجن إنداية، وتم نقل جميع سكان الخيمة الى الزنازين البحرية حيث الفئران في حجم الأرانب، وكنت وقتها في طريقي الى البيت حرا من الحبس ومن فضيحة أنني كنت ست إنداية (مشترك)

جعفر عباس


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى