السياسة السودانية

حليم عباس: نحو نظام سياسي جديد

[ad_1]

الحرب في قلب الدولة هي حدث صادم ومدمر بلا شك؛ وتُحدث هزة عنيفة في وعي الإنسان؛ تجعل الإنسان يعيد التفكير في وجوده وفي معنى حياته، في أفكاره، في نظرته لنفسه وللأخرين، في قيمه وفي قيم الآخرين وفي أفكاره وأفكار الآخرين. ولأنها مدمرة مادياً وصادمة معنوياً فهي تثير في الوقت نفسه أسئلة البناء والتعمير، أو على الأقل هذا ما أفترضه وأتصوره؛ أفترض أن حدثاً مثل الحرب بكل ما يحمله من موت وخراب يجب أن يجعلنا نعيد التفكير بجدية في بعض مسلماتنا الفكرية؛ على الأقل بالنسبة لأولئك المنشغلين بالسياسية، وبمفاهيم مثل الدولة والحكم والديمقراطية.
فلا شك أن سؤال النظام السياسي ما بعد الحرب هو أهم سؤال يشغل كل من يهمه أمر البلد. ماذا سيكون؟ وكيف سيكون؟ هل سيتعلم الشعب من التجربة الصعبة للحرب ويعمل على صياغة نظام جديد يلبي تطلعاته في السلام والاستقرار والرفاهية؟ هل يفرض المنتصر نظاماً دكتاتورياً جديداً، أو هل ستكون تسوية يشارك بموجبها الجميع وهل يستمر وضع الدولة على ما كان عليه قبل الحرب؟ كيف يُمكننا حل المشكلات التي تقود إلى الحروب باستمرار؟ مشاكل الحكم والعدالة والتنمية؟ هل سننشئ نظاماً جديداُ يعالج هذه القضايا وكيف يُمكن ذلك؟ أم هل سنستمر في نفس الوضع القديم بنفس العقلية القديمة التي أنتجت المشاكل ونواصل الانحدار للأسوأ إلى أن تتفكك الدولة نفسها وتتلاشى؟ وهل هناك دولة أصلاً؟ وغيرها من الأسئلة.
في هذا السياق، أرى أن أهم ما يجب أن نخرج به من هذه الحرب هو مراجعة مفاهيمنا وملسماتنا الأساسية حول الدولة والحكم والتدقيق فيها بجدية وبصرامة. من هذه المسلمات الأساسية أن هناك دولة وكل ما ينقصها هو الانتقال الدميقراطي. يدرك كثيرون منا أن مشكلتنا أكبر من الديمقراطية وأن الديمقراطية ليست هي الحل في سياقنا الحالي؛ لأن الديمقراطية تتعلق بتداول السلطة في دولة مستقرة لها مؤسسات قائمة وفعالة ولها توجه محدد واضح، وهذا التوجه هو شيء أكبر من نصوص دستورية؛ فالتوجه يتعلق بسياسات وخطط ومشاريع في المجالات المختلفة. الديمقراطية أداة تنافس لإدارة دولة بها مؤسسات ولها رؤية ووجهة. وهي ليست أداة للصراع في لا-دولة، ولا هي وسيلة لتأسيس دولة. مجرد فكرة أن الناس أحرار يتنافسون بحرية من أجل الحكم لا يؤسس بلد ولا يقوده للأمام، وبالتحديد في حالة السودان الراهنة.
مسلمة أُخرى تحتاج للتدقيق والمراجعة هي المسلمة القائلة بأننا نحتاج إلى إعادة تأسيس وبناء الدولة. فكرة إعادة تأسيس دولة تبدو لي أكبر من اللازم وأكبر من قدرات من ينادون بها؛ والأفضل استبدالها بتأسيس نظام سياسي كخطوة أولى على الأقل. فحينما نتكلم عن تأسيس نظام سياسي فنحن نتكلم عن شيء ملموس محدد نوعاً وهو معني بالدولة ولكن فكرة بناء دولة تستوجب استيعاب كل الدولة والشعب في تفكيرنا، بينما فكرة النظام السياسي محدودة. فلكي تقيم نظاماً سياسياً يحكم الدولة (أو الشيء الذي يشبه الدولة ونريده أن يصبح دولة) أنت بحاجة إلى حد معقول التوافق السياسي ومن القوة القادرة على إنشاء هذا النظام وتشغيله وحمايته، وليس إلى توافق كل الشعب أو كل القوى السياسية. وهذا النظام ليس من الضروري أن يكون نظاماً ديمقراطياً بالمعنى الشائع لهذه الكلمة. قد يكون نظام الحزب الواحد” أو نظام عدة أحزاب في منظومة تشبه الحزب من حيث توافقها وانسجامها على رؤى مشتركة ولكنها تعمل كأحزاب مستقلة تتنافس فيما بينها في إطار النظام والرؤية المشتركة. في رأيي هذا ما نحتاجه في السودان بعد الحرب. نظام سياسي أكبر من حزب وأصغر من دولة ولكنه يحكم البلد، يتكون من أوسع جبهة ممكنة من الأحزاب التي تتشارك في رؤية وطنية يتم التوافق حولها عبر الحوار المفتوح للجميع. ولكن بعد إنجاز هذه الرؤية يصبح لدينا نظام مغلق، من يريد أن يدخله يجب يوافق على رؤيته ويعمل على تنفيذها. ولا أقصد بكلمة “مغلق” هنا نظام جامد لا يتغير، وإنما أقصد بأنه يتغير بآليات من داخله وليس من خارجه. والهدف من ذلك هو تحقيق الديمومة والاستقرار، على الأقل لمدى زمني محدد، ربع قرن مثلاً أو أقل. بعد ذلك تُجرى إعادة تقييم شاملة للاستراتيجية السابقة وتقويمها وتطويرها.
لا أتكلم هنا عن دستور ديمقراطي ثم تتنافس الأحزاب كيفما اتفق على السلطة. نحن نحتاج إلى شيء أكثر من دستور، إلى رؤية أكثر تفصيلاً. صحيح لابد من دستور ومن تنافس حر ولكن ذلك في إطار رؤية مكتملة وتوجه واضح للدولة فيما يتعلق بكل قضايا الإصلاح والحكم والتنمية والعدالة إلى آخر هذه القضايا.
وبكل تأكيد لا أدعو إلى نظام يتم فرضه وتطبيقه من أعلى بواسطة أقلية دكتاتورية وإنما نظام يتأسس عبر حوار سياسي واجتماعي ويشمل أيضا النقاش المعرفي بين الخبراء والمختصين في مختلف المجالات مفتوح لكل السودانيين بكل اختلافاتهم هدفه الأساسي تكوين رؤية وطنية بمعالم محددة واضحة تحدد وجهة الدولة لعقدين أو ثلاثة. تتضمن الدستور ونظام الحكم والعلاقة بين المركز والولايات والعدالة والمساواة إلى آخر القضايا المطلبية المعروفة، ولكن نحن نحتاج إلى أكثر من إقرار الحقوق كنصوص ومن ثم الصراع على السلطة، نحتاج إلى رؤية وطنية واضحة تتعلق بالتنمية والنهضة بكافة المجالات من التعليم إلى الصحة إلى الإقتصاد إلى تطوير مؤسسات الدولة المختلفة بما في ذلك تطوير الأحزاب السياسية وغيرها من الأمور إلى تحتاج إلى قدر من المعرفة التقنية أولاً وثانياً إلى التوافق السياسي. لا نريد نظاماً ديمقراطياً تتصارع فيه أحزاب فقيرة بائسة تريد أن تحكم ولكنها لا تملك ما تقدمه؛ نريد أن تكون برامج الأحزاب مفصلة على رؤية كلية موجودة محددة سلفاً، على كل حزب أن يقدم برنامجه في أطار تنفيذ الرؤية الوطنية المعدة سلفاً ويكون ذلك هو معيار تقييمه، بل معيار أهليته كحزب أساساً للتنافس.
لا بد من قوة مؤسسة تقود هذا التحول؛ فالحوار نفسه يجب أن يكون عملية مؤسسة بمنهجية وتخطيط وهياكل ومدى زمني واسع وكافي عام أو اثنين أو أكثر وليس هناك أفضل من مؤسسة الجيش لتبني هذه الرؤية ولكن التنفيذ بطبيعة الحال مستويات فهناك جوانب ذات طابع فني تقني يجب أن تُسند إلى مختصين يشمل ذلك تصميم عملية الحوار نفسها من أجل تحقيق الأهداف المرجوة منها، وهناك مستوى سياسي يتعلق بحق المشاركة لكل والإسهام لكل مكونات وأطياف الشعب السوداني. جانب تخطيط وتصميم عملية الحوار وأهدافها وقضاياها وهياكلها ومراحلها هو الجانب الحاسم؛ فليس كل حوار تجتمع فيه عدة مكونات سياسية هو حوار ناجح بالضرورة. لابد من هندسة عملية محكمة بشكل منهجي علمي لتكون مثمرة في النهاية وهنا لابد التخصصية. مرحلة المشاركة السياسية كحق مكفول للجميع هي مرحلة لاحقة على الرغم من أهميتها ولكن يجب أن تتم وقف رؤية وخطة مسبقة. في المرحلة الأولية مرحلة التصميم نحتاج إلى القوة المؤسسة التي تفرض نفسها بشرعية العنف؛ لدينا الجيش وخلفه شعب كامل يملأ معسكرات الاستنفار وهو صاحب اليد العليا في الانتصار وإنهاء الحرب. يجب أن تكون هذه هي نقطة الانطلاق؛ الحرب وفرت درجة من التلاحم الشعبي وأيضاً درجة من تجلي الإرادة الشعبية يستحيل تجاوزها إلى نظام دكتاتوري أو نظام حزبي ضيق. وضع ما بعد الحرب هو وضع أقرب إلى ما بعد انتصار الثورة يجب أن يعقبه تأسيس نظام جديد بقيادة القوى المنتصرة. ولكننا نريده نظاماً مؤسساً على الحق وعلى العدالة والخير للبلد ولمستقبله ومستقبل كل أبناءه بما فيهم الأعداء المهزومين وليس على القوة وحدها. ولذلك يجب أن يبدأ بحوار شامل، ولكنه حوار وفق رؤية مسبقة، وليس مجرد استمرار للصراع بشكل آخر.
بالطبع الإصلاح في مجالات السياسية والاقتصاد وبناء الدولة عموما هو ليس قرارات تُتخذ في يوم واحد بقدر ما هي إستراتيجيات وسياسات تُتبَع وتُنفذ عبر مدى زمني ممتد ولذلك هي عملية متواصلة يلعب فيها عامل الزمن والتمرحل دوراً حاسماً؛ ولذلك فنحن نحتاج أن نفكر ضمن مدى زمني طويل نسبياً وهو ما يتطلب توافقا على نظام يشكل إطاراً عاماً لعملية الإصلاح؛ داخل هذا الإطار يُمكن أن تختلف الأحزاب السياسية وأن تتنافس. بالطبع تحتاج الأحزاب نفسها إلى إصلاح وإعادة تأسيس من جديد بشكل منهجي سليم؛ هذه ليست قضية ثانوية؛ وعلى الرغم من أن الأحزاب السياسية هي التي يُفترض بها تحريك أي عملية حوار سياسي، ولكن جند الإصلاح الحزبي هو جند أساسي في أي إستراتيجية وطنية. يجب أن يكون لدى الأحزاب القدر الكافي من التجرد والإلتزام الذي يجعلها مستعدة لحل نفسها وإعادة التشكل وفق أُسس ورؤى جديدة في إطار الإستراتجية الوطنية؛ وإلا فلن يكون هناك أي قيمة لهذه الإستراتيجية إذا كانت الأحزاب التي يُناط بها العمل على تنفيذها غير مؤهلة في نفسها. ولذلك أقول نحن بحاجة إلى تأسيس نظام سياسي جديد كامل، وليس فقط التوافق على دستور وتنافس ديمقراطي على السلطة بدون أي مضمامين وبواسطة نفس المكونات السياسية المليئة بالمشاكل في عظمها هي نفسها. يجب أن نمتلك الجرأة للتفكير في أنفسنا والاستعداد للتغيير في أنفسنا فالتغيير يبدأ من هنا أساساً. لذلك لابد من مراجعة جذرية للأحزاب في إطار رؤية استراتيجية وطنية؛ وإعادة تكوينها وفق أسس ومعايير جديدة. ولذلك مرة أخرى لابد من سلطة مؤسسة فوق هذه الأحزاب ولكنها ليست فوق الإرادة الشعبية. أنا هنا أتكلم عن رؤية وطنية يتم إنتاجها بحرية عبر وسائل الحوار بمشاركة كل أبناء الوطن وبالتالي فهي تتمتع بشرعية وبمصداقية بالمعنى المعرفي للكلمة.

حليم عباس

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى