السياسة السودانية

حرب بين جيش انقلابي ومرتزقته

مهند الحاج علي

الدرس الأساسي اليوم في القتال بين الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، من جهة، وبين قوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف باسم “حميدتي”، هو الحسابات الضيقة لدى كل من الطرفين، والمبنية على الاستحواذ على السلطة وعدم الثقة بالطرف الآخر. المدنيون اليوم يدفعون ثمناً باهظاً لهذا الصراع، أكان لجهة انعدام الأمان وسقوط ضحايا في صفوفهم، أو لناحية الدمار اللاحق بالممتلكات والبنى التحتية. علينا دوماً تذكر أن هذه المواجهات العسكرية تأتي عقب سنوات طويلة من تداعي البنى التحتية والخدمات والأمن والاقتصاد والوضع المالي والسياسي، وبالتالي كلفتها على المدنيين مُضاعفة مرات.

لكن ماذا بالإمكان أن نتوقع من مجموعة انقلابية بات لديها سجل حافل في خرق اتفاقاتها مع المدنيين، سوى الاقتتال في ما بينها لهيمنة طرف على آخر؟ والحقيقة أن التركيبة السودانية اليوم منذ سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير، غير مألوفة نسبة لمجموعة عسكرية انقلابية، إذ تضم رأسين، ينتمي كل منهما الى مؤسسة، الأولى هي الجيش المهيمن على السلطة منذ عقود طويلة، والثانية هي ميليشياته المكونة من مرتزقة اعتمد عليهم في حربه على فصائل متمردة في إقليم دارفور.

وهذه المجموعة برأسيها مسؤولة عن اسقاط اتفاق عام 2019 مع المدنيين، من خلال انقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر) عام 2021، وما سبقه من خطوات لتقويض نفوذ المدنيين وقدرتهم على احداث خرق في الواقع. كيف بإمكان سُلطة قائمة على الطعن بالظهر والنكث بالاتفاقات، أن تبني ثقة بين مكوناتها، وتُشارك السلطة في ما بينها؟

عملياً، كان الاقتتال الحالي نتيجة متوقعة لمسار عمره 4 سنوات، عماده منع المكونات المدنية من تشكيل مساحة نفوذ مستقلة، والتنافس بين القطبين العسكريين، وتسلل الإسلاميين من ثقوب هذه التركيبة. ولكن علينا أيضاً النظر الى الاقتتال بصفته احدى أدوات النظام القائم منذ عقود، يُساعده على مواجهة الاحتجاجات والمعارضة السياسية، وتبرير قمعها، من جهة، وكذلك في سياق هيمنة نخبة تُمثل نادياً مغلقاً لا يرغب في ادخال لاعبين جدد اليه.

في الشق الأول، لن تجد النخبة الحالية بُداً من المواجهة العسكرية لإطفاء الاحتجاجات. حتى لو إن هناك من يرى دوراً للمعارضة في الاقتتال لناحية الإصرار على دمج “الدعم السريع” في الجيش السوداني، بما يُفخخ العملية السياسية ويزيد منسوب عدم الثقة بين الطرفين، إلا أن النظام بأسره يملك تاريخاً من الاعتماد على الاقتتال الداخلي لإسكات الأصوات المعارضة. ومن الصعب استبعاد هذه الجولة من القتال، رغم جديتها، بصفتها أيضاً محاولة لتجنب أي عملية سياسية ولاطفاء جذوة الاحتجاجات وتبرير العنف المفرط ضدها خلال الشهور الماضية، وفي المستقبل القريب أيضاً.

في الشق الثاني، علينا أيضاً عدم استبعاد حسابات النخبة (الشمالية) السياسية المهيمنة على الحكم في السودان. الفريق عبد الفتاح البرهان يُمثل هذه النخبة، هو المتحدر من قرية قندتو في منطقة نهر النيل شمال الخرطوم. كان أبناء قرية البرهان، مشاركين في الحياة السياسية، وبينهم قادة عسكريون ومسؤولون وأقطاب في مجال التعليم.

في المقابل، هناك حميدتي المتحدر من قبيلة الرزيقات في إقليم دارفور الهامشي غرب السودان. على عكس البرهان، ترك الدراسة في سن مبكرة للعمل في تجارة الإبل، وفي المجال الأمني في مواجهة القوافل التجارية. لا مكان للراعي والميليشيوي المتحدر من الهامش، في نادٍ مغلقٍ لنخبة تُهيمن على البلاد بالعسكر والاقتصاد.

“حميدتي” في هذا المجال بنى سلطته بميليشيا من المرتزقة الذين استخدمهم النظام السابق في حرب دارفور عام 2003 (وحاول تقويضهم بسجن المؤسس موسى هلال من القبيلة ذاتها وعبر حميدتي نفسه)، وأسس لاستقلال مالي لمسلحيه بعد اكتشاف الذهب في جبل عامر الخاضع لسيطرته.

هذه الحرب مواجهة متعددة الأوجه، وتحمل معها احتمالات مختلفة، لكن الواضح فيها للآن أن المدنيين وخياراتهم السياسية ومستقبلهم ونضالاتهم هم الضحية الأولى لهذه المواجهة.


المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى