السياسة السودانية

المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (20) – النيلين

[ad_1]

المعقول واللاّ معقول في العلاقات الدبلوماسية (20)
الجاسوسية والدبلوماسية (2)
خلال فترة عملي كسفير للسودان ببلغاريا، كنا نحتاج لطباخ يعمل في بيت السفير.
ذات يوم دخل عليَّ الأخ الإداري يسن آدم، رحمه الله رحمة واسعة، وهو من طراز الإداريين العمالقة مثل محمد عبد المنعم وإبراهيم البدوي وعلى عبد العزيز وكمال إسماعيل وعلاء الدين الأمين ومحمد ود بدر وعاطف سالم وعبد الله أبو شامة وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم. دخل يسن وقال لي:
جاء شخص بلغاري وأفادني أنه طباخ محترف.
ضحكت وقلت له:
تَذكّر أننا لم نعلن عن حاجتنا لطباخ بأي وسيلة إعلان. هذا رجل أرسلته المخابرات البلغارية، ولكن لحاجتنا الماسة، ولأن وزير الدولة للخارجية سيزور صوفيا في زيارة رسمية، قم باستكمال إجراءات تعيينه إذا وافق على مرتب السفارة. وبعد أيام وجيزة نفصله.
وبالفعل شغّلناه.. وحصرنا حركته داخل المنزل.. وظللنا نراقبه بالتناوب، حتى لا يزرع لنا جهاز تنصت أو شيء من هذا القبيل.
لحسن الحظ أنني كنت أقوم بتوعية بناتي بمخاطر الاختراق الاستخباري ووسائله وطرقه، مما ولد لديهن وعياً مبكراً وقدرة على الترقُّب والملاحظة الدقيقة.
في أوائل أيامه جاء للبنات بصورة تجمعه مع الممثل الصيني الأصل جاكي شان، وزعم أنه شاركه في تمثيل فيلم حين صُوّر ذلك الفلم في بلغاريا.
وبدأنا نقول: إن هذا أول فيلم من أفلام هذا الجاسوس يريد تمثيله علينا.
جاءتني عزة ابنتي يوماً وقالت: إن الطباخ يفهم اللغة العربية؛ بدليل أنها قالت لأختها إسراء: إن صوت المذياع مرتفع (ولم تقل الراديو) فبادر صاحبنا لتخفيض الصوت.
وتحدثت إحداهن مع أختها أن الطعام الذي يأكلنه يحتاج بعض ملح، فجاء الرجل بالملح من تلقاء نفسه!!! ممّا يعني أنه يفهم اللغة ويتنصّت لكل ما يقال حوله.
في يوم كانت لديَّ وليمة، وجاء أحد الموظفين مُبكّراً ؛ فقلت له: إن الطباخ سيخرج ليشوي اللحم بالخارج بعد قليل؛ وأريدك أن تنزل إلى السرداب، وتدخل يدك في جيب بذلة الطباخ حيث يضعها. وستجد بالجيب بطاقته العسكرية في جهاز الأمن البلغاري، وتحضرها لي.
توجس الرجل من طلبي الغريب وتردد، ثم سألني: كيف عرفتَ أن الرجل بجهاز الأمن؟
قلت له: بعد سنوات من التجربة مع أمثال هذا فقد أصبحت كأنني أشْتَمّهم!!
هبط الرجل إلى سرداب المنزل وجاءني بعد دقيقة يحمل شارة الرجل العسكرية، وهو يرتجف.
في الغد أرسلناها رفقة مذكرة رسمية لوزارة الخارجية البلغارية؛ ومن يومها اختفى الرجل ولم نسمع له رِكْزَا. هنا تأكدنا: Message received.
وقبل أن نمضي قُدماً في العلاقة بين الجاسوسية والدبلوماسية ينبغي أن نوضح الفروقات بين بعض مفاهيم هذا المجال.
‏A – فوفقاً للنظام البريطاني ينقسم الجواسيس spies الذين يعملون للدولة إلى قسمين:
١/ ضباط المخابرات Intelligence Officers
٢/ العملاء Agents
وضباط المخابرات هم المدرَّبون على التجسس Espionage وهم الذين يجندون العملاء.. وقد يعملون في الدولة المضيفة علناً كممثلين لجهاز المخابرات البريطاني؛ وقد يعملون سِرّاً covert تحت غطاء دبلوماسي، أو كرجال أعمال، أو صحفيين، أو عمال إغاثة.
وقد يعملون تحت ما يُسمّى “غطاء عميق” Deep cover، كأن يعملوا بجنسية غير جنسية بلدهم واسم مستعار.
وعادة ما يكون دافع العميل للعمل مع المخابرات الأجنبية دوافع شخصية مثل الفقر، أو الإحساس بأنه من أقلية مضطهدة اجتماعياً؛ أو دافع أيديولوجي.
والبديهي أن العميل بلا ضمير، عديم القيم، ويعاني من خلل تربوي.
وتلك هي الـمُهلكات التي تجعله يخون وطنه.
ويمثل البريطاني كيم فيلبي (اسمه الحقيقي Harold Adrian Russell “Kim” Philby) ومجموعة كمبردج الخماسية أقوى مثال للتجسس بدافع أيديولوجي.
فقد كان كيم فيلبي ومجموعته شيوعيين مؤمنين بالماركسية اللينينية كأفضل نظام.
وعمل كيم فيلبي في المخابرات البريطانية الخارجية MI6، ثم دبلوماسياً، وكلفته MI6 بأن يكون كبير ضباط الاتصال مع CIA حين كان دبلوماسياً بواشنطن.
وظل يتجسس لصالح السوفييت منذ سنة 1934 حتى اكتشافه في 1963، وبعدها فرّ إلى موسكو.
فتأمل عُمق تأثير التَحَيُّز الأيديولوجي في تغيير سلوك البشر.
‏B – وعند الأمريكان: العميل agent هو الموظف الذي يعمل في جهاز الأمن أو المخابرات مثل ضباط FBI وضباط CIA.
أمًا العنصر الذي يجنده الضباط فيسمونه “مخبر” Informant؛ وليس Agent.
وفي السودان – مثل الإنجليز – فضابط المخابرات والعميل كلهم جواسيس.
في التجسس لا تراعي الدول علاقات الصداقة فيما بينها.
حتى إسرائيل، التي يقوم بقاؤها على الولايات المتحدة، تتجسس عليها.
ومشهورة حادثة اليهودي الأميركي جوناثان بولارد Jonathan Pollard، الذي كان يعمل محللاً للمعلومات الاستخباراتية Intelligence Analyst للحكومة الأمريكية؛ والذي باع معلومات في غاية السرية ومحظور تداولها top-secret classified information لجهاز الموساد الإسرائيلي.
ولدى افتضاح جريمته هرب إلى إسرائيل أربعة من ضباط الموساد في سفارتهم، الذين كانت لهم علاقة بفضيحة بولارد. وبالطبع أثرت تلك الحادثة على علاقة إسرائيل بأميركا لمدة من الزمن.
ألقي القبض على بولارد وووجه بالإثباتات فأقرَّ بجرمه، وقام بمساومة السلطات العدلية الأمريكية (عمل Plea Bargain) لتخفيض العقوبة. فحُكم عليه بالسجن مدى الحياة، وأطلق سراحه عام 2020.. وأثناء فترة سجنه منحته إسرائيل جنسيتها، وهو يقيم بها الآن.
تمثل أجهزة الأمن والاستخبارات نظام المناعة والحصانة لأي دولة، ولذا تُحظى بالاهتمام في الدول التي لديها ولدى مواطنيها وعي وحرص على الأمن القومي.
العقلاء يعرفون جيداً أن انهيار أو ضعف أجهزة الأمن والاستخبارات يعني بالضرورة اختراق الدولة من قبل الدول والمنظمات الأخرى.
وجود أجهزة الأمن والاستخبارات قويةً وفاعلة في أي دولة يعني:
١- بقاء واستمرار الدولة.
٢- استقرارها.
وبدونها لا يمكن تحقيق سلام ولا تنمية.
وقد شهد السودان حالتين عانا فيهما جراء استهداف جهاز الأمن من الناشطين والحزبيين اليساريين الذين بالغوا في تشويه صورته؛ وذلك بعد سقوط نميري (1985) وسقوط البشير (2019).
فبعد هاتين الكارثتين عبثت السفارات والأجهزة الاستخباراتية الأجنبية بالبلاد، ووسّعت امتداد شبكة عملائها الذين كان أكثرهم من يساريي قوى الحرية والتغيير، الذين لم يخجلوا من الجهر بأنهم يذهبون للسفارات (سفارة سفارة)!!!
ومثل هذه الصفاقة بالعمالة لا تجري إلّا في بلد انهارت حكومته.
ليس سراً العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية والدبلوماسية في كل بلاد العالم.
والذين لا يعرفون هذه الحقيقة أو شُوّهت صورة الاستخبارات في بلدهم يزعجهم الاعتراف بتلك العلاقة.. وهي علاقة لازمة.
فكلا المؤسستين تعملان في حماية الأمن القومي. ومن النزاهة تجليتها. هذا رغم أن الإنسان يُحبط من كثرة الذين تصدمهم النزاهة، وقلّة الذين يصدمهم الخداع.. أو كما قال تشرتشل:
‏it’s discouraging to think how many people are shocked by honesty and how few by deceit
من الطبيعي جداً أن تجد دبلوماسياً تحوّل للعمل مع MI6 أو مع FBI أو مع CIA في البلاد المدِركة لأهمية هذه الأجهزة.
تجد مثلاً السفير المتجول (Ambassador At-Large) كوفر بلاك مدير لمركز مكافحة الإرهاب في CIA، ثم نائب مدير Black Water التي درّبت قوات العدل والمساواة في الجنوب.
يمكنني بالطبع أن أذكر عديد الأمثلة على تعاون وعمل الدبلوماسيين مع الأجهزة الاستخباراتية في الدول الكُبرى.
كشفت نيو يورك تايمز، وكذلك وثائق ويكي ليكس توجيهاً رسمياً أصدرته الخارجية الأمريكية للدبلوماسيين الأمريكان عام 2009، بالتجسس على موظفي الأمم المتحدة، وكذلك التجسس على قادة دول الاتحاد الأوروبي!!!
وكشف سنودن snowden الذي انشق ولجأ لروسيا أن الدبلوماسيين الأمريكان تجسسوا على فنزويلا، بل وتجسسوا حتى على ألمانيا الحليفة.
السفير عبدالله الازرق
28 أكتوبر 2023

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى