السياسة السودانية

الدعم السريع ورحلة البحث عن مشروع – النيلين

[ad_1]

كتبت في صفحتي على الفيسبوك قبل أربع سنوات (28 يونيو 2019) منشوراً عن الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي)، كمثال للسياسيين السودانيين الأغرار ذوي الطموح العارم. سرت في ذلك المنشور على منهج دراسة الحالة، باعتبارها وسيلة نظرية ناجعة للإحاطة بتفاصيل الظاهرة وكيفية تفاعلاتها، وباعتبارها أيضاً وسيلة عملية ناجعة لتوسيع الخيارات أمام صناع القرار، واطلاعهم على تجارب مماثلة جرت قريباً منهم- زماناً أو مكاناً، فيتجنوا إعادة انتاج التجارب الفاشلة.

وبناء على ذلك أخذت أدقق النظر في “الحالة الليبية” تحت حكم العقيد القذافي، لما رأيت فيها من ملامسة للواقع السوداني-مرحلة ما بعد سقوط حكومة الإنقاذ في ابريل 2019؛ مثل التفكيك المتعمد لمؤسسات الدولة (وللمؤسسة العسكرية بصفة خاصة)، ومثل عسكرة القبيلة ودولنتها، ومثل ما أبداه العقيد القذافي، خلال هذه العملية، من جرأة في إعادة هيكلة للمجتمع الليبي، وكيف أن تلك العملية قد أبقته في الحكم لأكثر من أربعين عاما، ولكنها أدت في نهاية الأمر لانهيار نظامه.

رأيت أن هناك تشابهاً بين ما قام به العقيد القذافي في ليبيا قديماً، وما بدى لى من أن الفريق أول محمد حمدان دقلو (ومن يدعمه سراً في الداخل والخارج) يحاول القيام به في السودان. ورأيت حينئذ إن ظاهرة حميدتى ظاهرة خطيرة، تهدد الأمن القومي السوداني، فلا يكفي أن نقابلها بمجرد السخرية والاستهزاء. ولكن بعض القراء اعترضوا على تلك المقارنة، ذاهبين إلى القول بأن السودان ليس ليبيا، وأن حميدتي ليس القذافي، وأن المجتمع السياسي السوداني قد بلغ درجة من النضج لا مكان معها للتكوينات القبلية، وأن النخب السياسية لا يمكن شراء ولائها، وأن حميدتى ليس سلطانا ولا صانع سلاطين. كانت الثورة السودانية يومئذ ما تزال خضراء، وكانت صور لحميدتى ترفع عالية في ساحات الاعتصام.

ثم، وبعد شهر واحد من مقالي، (أي في 30 يوليو 2019) غُير قانون الدعم السريع، وأُسندت له صلاحيات أوسع، وصار حميدتى الرجل الثاني في الدولة بلا منازع. واستطاع خلال السنوات الأربع التالية (ابريل 2019-ابريل 2023) أن يحول قوات الدعم السريع إلى ما صار يُعرف ب “امبراطورية آل دقلو”؛ حيث ارتفع عددها من عشرين ألف إلى ما يقارب المائة ألف، وتلقت عشرات الدبابات وناقلات الجنود (من دولة صديقة!) وصارت لهذه القوة مقرات ومعسكرات في كل ولايات السودان، وأنشأت لها نحواً من 80 موقع ارتكاز، من القيادة العامة الى القصر الجمهوري وهيئة العمليات والإذاعة والتلفزيون والجسور الرئيسية في العاصمة. وصارت إدارة هذه القوة تمتلك شبكة متطورة من الاتصالات، وأكثر من 50 شركة تجارية في داخل السودان وخارجه، وصار بمقدور الفريق حميدتى أن يدفع لجنوده وضباطه مرتبات تعادل أضعاف مرتبات الجنود والضباط في القوات المسلحة النظامية. وصارت له قدرة على الرفع والخفض، والفرز والضم، والافقار والاثراء. وصار يوزع الرتب العسكرية كما توزع قطع الحلوى، فيرفع جندياً من رتبة عريف إلى مقدم أو عميد بجرة قلم، ويسقط عميداً من سجلات الخدمة العسكرية. ورغم هذه القوة إلا أن الفريق حميدتى كان يتوجس من المؤسسة العسكرية النظامية التي كانت بدورها تتوجس منه. ورغم أنه استطاع أن يستميل إليه بعض ضباطها المحالين إلى التقاعد إلا أن أن الهواجس كانت تنتابه- تماما كحالة العقيد القذافي مع المؤسسة العسكرية في ليبيا. فالسعي لتفكيك المؤسسة العسكرية واستبدالها بعناصر عشائرية موالية هو واحد من وجوه التشابه بينهما، وهو نا دعانا للعودة لهذا الموضوع في محاولة لاستكمال المقارنة بعرض موجز للخطوات التي سلكها العقيد القذافي في التفكيك والتركيب، وكيف أن الفريق حميدتى حاول أن يسير على الطريقة ذاتها فانتهى-في أربع سنوات فقط-إلى النتائج الكارثية ذاتها التي انتهى اليها العقيد القذافي بعد أربعين سنة. ولكن دعنا ننظر في إجراءات العقيد القذافي أولاً.
المشروع التفكيكي للعقيد القذافي

ما أن استولى العقيد القذافي على السلطة حتى سرح أعدادا كبيرة من ضباط الجيش، وحول بعضهم لوظائف مدنية، كما حول بعضهم الى وظائف دبلوماسية خارج البلاد. ثم أمر بإغلاق الكلية العسكرية الملكية في بنغازي، وشرع في تجنيد اعداد من طلاب المدارس الثانوية وارسالهم الى الكليات العسكرية في مصر ليكونوا نواة لمؤسسته العسكرية الجديدة. وهذه بالطبع خطوات لم تكن مستغربة من حركة انقلابية تسعى لتأمين وضعها العسكري في الداخل، ولتقوية غطائها الاقليمي والإيديولوجي (العروبي-الناصري). ولكن المستغرب أن تكون “القاعدة الشعبية التحتية” التي يقوم عليها هذا الرأس “الثوري القومي” قاعدة قبلية ضيقة؛ إذ رأى العقيد ألا ينضم لمؤسسته العسكرية الجديدة الا من استوفى شرط القبيلة، فأمر جميع أبناء قبيلته “القذاذفة” الذين يدرسون بالمرحلة الثانوية بالالتحاق بالكلية العسكرية، وضُم إليهم حتى من لم يحصلوا على الشهادة الثانوية. وفعل عبد السلام جلود الشيء نفسه بالنسبة الى أبناء قبيلة “المقارحة”، وكان عبد الله السنوسي “المقرحي” من بين هؤلاء، وهو لم يحصل على شهادة معهد المعلمين الخاص. كان قرار معمر القذافي، أو عبد السلام جلود هو الشهادة. وكأن سياج القبيلة لم يكن كافياً، فقد أحاط العقيد القذافي نفسه بأبنائه الثلاثة: سيف الإسلام (الذي أوكلت له الشؤون السياسية والدبلوماسية)، والمعتصم (الذي أسند اليه مجلس الأمن الوطني)، وخميس (الذي أسندت اليه القوات الخاصة)، والتي سميت (جحافل خميس) ثم عدل اسمها ليكون اللواء 32 معزز.

بهذه الطريقة استطاع العقيد القذافي أن يقوم بعمليتين في وقت واحد: تفكيك المؤسسة العسكرية القديمة وتسريح عناصرها، و”عسكرة” القبيلة؛ وهما عمليتان مهدتا، من حيث لا يشعر، لسقوط نظامه فيما بعد. الجدير بالذكر أنه لم يعرف لقبيلة القذاذفة قبل انقلاب القذافي نفوذ اجتماعي أو اقتصادي في المجتمع الليبي، وانما كانت، كما يقول بعض العارفين بالشأن القبلي في ليبيا، تابعة لقبيلة أولاد سليمان أو لقبيلة ورفلة. وقد هاجر الكثير من عائلاتها الى تشاد إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا، ثم عادت بعض هذه العائلات الى ليبيا بعد ظهور النفط، فانخرط أبناؤها إما في قوات الشرطة أو المهن اليدوية، وذلك نسبة لقلة المتعلمين منهم، ولنمط الحياة البدوية الفقيرة التي اعتادوا عليها في تشاد. ولكن ما أن استولى أحد أبنائهم على السلطة السياسية، وفتح لهم نوافذ على مؤسسات الدولة، الا وقد هرعوا إليها بدافع العصبية القبلية والمنفعة المادية معاً، مثلهم في ذلك مثل بعض العشائر العربية البدوية التي كانت تغدو وتروح بين جنوب ليبيا وتشاد والنيجر ودارفور لتصبح فيما بعد مخزوناً بشرياً لقوات الدعم السريع بعدما صعد الفريق حميدتى إلى سدة الحكم في السودان.

بيد أن تفكيك المؤسسة العسكرية الليبية لم يكن يعنى أن العقيد لم يبتدع هيكلاً بديلاً يمارس من خلاله السلطة. لقد كان هيكله البديل يتكون من ثلاثة انظمة متداخلة: نظام ايديولوجي مستمد من الكتاب الأخضر ويهدف لدعم الشرعية؛ هيكل سياسي رسمي يتمثل في نظام المؤتمرات الشعبية، وهو يعكس التجسيد الرسمي للإيديولوجية، ولكن لا وزن له من الناحية العملية؛ ونظام غير رسمي، ويتكون من مجاميع عسكرية واقتصادية واجتماعية موازية للهياكل الرسمية، ويستند على نمط مخصوص من التحالف السياسي/العسكري/القبلي/الاقتصادي. وهذا الأخير هو النظام الفاعل الذي يستخدم النظامين الاخرين لأغراض متنوعة، ويتحكم من ثم بمفاعيل العمل السياسي بشكل يومي. غير ان هذا النظام نفسه تتحكم فيه من الباطن دائرة داخلية صغيرة عرفت “برجال الخيمة”، وتتكون من عائلة القذافي، وزعماء قبيلة القذاذفة.
العصبية الحاكمة
ومما هو جدير بالملاحظة أن صعود “القذاذفة” للسلطة، وتحولهم الى “عصبية حاكمة”، وتمتعهم من ثم بالكثير من الامتيازات العسكرية والاقتصادية، أغرى القبائل الأخرى للتواصل معهم أو للتلاحم بهم. لقد لاحظ ابن خلدون، محقا، أنه من الممكن أن يصطنع أهل العصبية الحاكمة قوماً من غير نسبهم، فيندرج هؤلاء المصطنعون في تلك العصبية، ويلبسون جلدتها، وينتظمون في نسبها، وينالون، من ثم، ثمرات النسب، وإذا وجدت ثمرات النسب فكأنه وجد. ويبدو جلياً أن هذه الملاحظة تنطبق تماما على حالة القذادفة في ليبيا، إذ ما أن استولى على السلطة نفر من أبنائهم حتى أصبحت لهم جاذبية خاصة، والتحمت بهم عشائر أخرى في مرحلة النفط والدولة، ولم تعد “القذادفة” مجرد قبيلة بدوية ساذجة، وانما تحولت الى تحالف قبلي واسع، ثم تحول ذلك التحالف الى أشبه ما يكون “بمجموعة مصالح”، تضم في أعطافها سائر الأصناف التي تعرف “بالطبقة الوسطى” في المجتمعات العربية الأخرى. ثم انضمت إليها بالطبع “النخب الهشة” من سياسيين ورجال أعمال وأنصاف مثقفين وإعلاميين وأصحاب فنون وأشعار. أستطاع القذافي بهذه الطريقة أن يخترق المجتمع الليبي وأن يتحكم فيه لأكثر من أربعين عاما.

فإذا أمعنت النظر في هذه الصورة، وحذفت اسم العقيد القذافي ووضعت مكانه الفريق أول حميدتى، وحذفت اسم القذاذفة والمقارحة ووضعت مكانهما أولاد منصور والمهارية وبقية المكونات القبلية لقوات “الدعم السريع”، فستجد أن نوعاً من أنواع “العصبية الحاكمة” قد بدأ يتبلور في الحالة السودانية (بقيادة حميدتي وبدعم حلفائه في الداخل والخارج). وهو وضع يماثل الحالة التي كانت عليها ليبيا قبل خمسين عاما! كما يمكنك أيضاً، حينما تمعن النظر، أن ترى مجموعات من القيادات القبلية والعناصر الحزبية الناشئة النشيطة وهي تلتف حول قائد العصبية الحاكمة (الذي صار يشار إليه أحياناً بالأمير حميدتي)- تماماً كما توقع ابن خلدون من قبل. أما إن ظننت أن “رجال الخيمة” القذاقية لا وجود لهم في حالة حميدتى فدونك “خيمة آل دقلو” التي صنعها حميدتى من أخوانه الأشقاء وغير الأشقاء لتكون النواة القيادية لقوات الدعم السريع، وتتكون من:
محمد حمدان دقلو (القائد الأعلى)؛ القونى حمدان دقلو (المكتب السياسي)؛ عادل دقلو (مدير امداد)؛ محمد إسماعيل دقلو (قائد ثاني استخبارات)؛ جمعة دقلو (المكتب الاستشاري)؛ رائد محمد جمعة دقلو (قائد القوات الخاصة)؛ لواء رامى حمدان دقلو (قائد المدرعات)؛ عزت الماهري (متحدث رسمي).

وهكذا تلاحظ أن التشابه بين مشروع القذافي ومشروع حميدتي يكمن في القدرة على صناعة “عصبية بدوية حاكمة” تحل محل المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة، وفى استمالة النخب السياسية الهشة (يميناً ويساراً)، وفى اصطناع حاضنة اجتماعية من بعض العناصر القبلية التي يمكن شراء ولائها عن طريق المال والجاه. صحيح أن الفريق حميدتى لم يكن يملك نفطا كما امتلك القذافي، ولكنه كان يمتلك قوة عسكرية ذات عدة وعتاد، ويمتلك جبلاً من ذهب، ويتمتع بدعم وامداد من أكبر دولتين نفطيتين في المنطقة. الفرق الوحيد هو أن العقيد القذافي كان يتطلع لأن يكون “ملك ملوك أفريقيا”، بينما لم يبلغ حميدتى تلك الدرجة من الجنون. يضاف الى ذلك أن العقيد القذافي كان قد تلبس بغطاء أيديولوجي فضفاض عُرف باسم “الكتاب الأخضر” (وزعم أنه سيحل مشاكل الديموقراطية والاشتراكية ويتجاوزهما)، بينما ظل الفريق حميدتى يتلفت يمنة ويسرى بحثاً عن “كتاب أخضر” يوفر له غطاء أيديولوجياً، ويمهد له طريقاً إلى المشروعية.
الفريق حميدتى والبحث عن كتاب أخضر
ما من مراقب لنشأة الدعم السريع وتطوره إلا ويدرك أنه ليس له فلسفة أو رؤية وطنية جامعة، وأنه أشبه ما يكون ب”جماعة وظيفية”؛ أي شبكة ضخمة من عسكريين وأمنيين واعلاميين ورجال أعمال وزعماء عشائر، تخلقت في ظروف غفلة داخلية واختراق اقليمي ودولي، وأنها لم تكن تمتنع -في سعيها المحموم للاستحواذ على السلطة والثروة- عن الانخراط في أجندات لا تدرك غاياتها، أو أن تقاتل عدوا غير معلوم تحت شعارات لا تدرك مضامينها. وقد كانت تلك هي منطقة الفراغ التي احتلتها عناصر سياسية من “المُسهلين” ذوي الطموح المكبوت، وحاولت أن تجعل من آل دقلو عائلة حاكمة، وأن تحول حميدتى إلى قائد ملهم بأن تصنع له كتاباً أخضر يستكمل به الحلقة المفقودة كما صنع من قبل المسهلون-المستهبلون كتاباً أخضر للعقيد القذافي. فلوحوا له أولاً “بوثيقة المحامين”، ثم طرحوها جانباً وأعدوا له مشروع “الاتفاق الإطاري”، ثم نظموا له ورشة للإصلاح الأمني والعسكري وجلبوا إليها عدداً من الخبراء (والخبيرات) الأجانب ليشرحوا له ولجنوده “المفاهيم والأسس النظرية للإصلاح الأمني والعسكري”، و”المدخل النظرى للترتيبات الأمنية”، وكتبوا له ورقة جعلوه يطالب فيها بمراجعة مناهج الكلية الحربية، وتصفية القوات المسلحة من أصحاب الأيديولوجيات، وتطوير العقيدة العسكرية، وتضمين حقوق الانسان وحقوق “النوع” في القانون العسكري الجديد (لاحظ حقوق النوع هذه!). وغنى عن الذكر أن مثل هذه القضايا والأفكار التي اجتهدت في تقديمها الخبيرة سينزانا فوكسا، وجيف مابتدرى واياد الجراح وكريس لوكهام كانت بعيدة غاية البعد عن أفهام الفريق حميدتى وجنوده، مما جعل “المسهلين” يتركونها جانباً ويعودون إلى استخدام الذخيرة اللغوية السهلة: الكيزان والفلول، ودولة 56، والشريط النيلي، والعودة الى منصة التأسيس، والسودان القديم والجديد، وهذه بالطبع مفردات الحركة الشعبية التي أسسها جون قرنق من قبل وورثها بعض “المسهلين” وسماسرة السياسة، وحاولوا أن ينسجوا من خيوطها عباءة تلاءم قوات الدعم السريع. وقد لاقت هذه الخطة رواجاً كبيراً بين جنود وضباط الدعم السريع، إذ وجدوا فيها ما يشبه المسوغ الأخلاقي وهم يخوضون حربهم الأخيرة في الخرطوم. فصاروا يقتلون ويغتصبون ويحتلون منازل المواطنين، ويستولون على ممتلكاتهم ويعتبرون ذلك استرداداً لحقوقهم التي سلبت منذ عام 56؛ وصاروا يحرقون السجلات المدنية والعقارية ويعتبرون ذلك عودة لمنصة التأسيس؛ وطفقوا يحطمون ويحرقون المؤسسات العامة والمكتبات والمتاحف والجامعات باعتبارها رموزاً للسودان القديم، يفعلون كل ذلك في وحشية لم تشهد من قبل. ولعل هذا النمط من الهمجية المشينة هو ما أزعج بعض أصحاب الحركة الشعبية الأوائل، ورأوا فيها استعارة غير كريمة لرؤية السودان الجديد. فما هي تلك الرؤية، وكيف وُظفت في معركة الخرطوم؟

استعارة رؤية السودان الجديد
في مقال له (5 سبتمبر 2023) بعنوان (جون قرنق يتململ في قبره) تعرض د. الواثق كمير بالنقد الى دعوة من ياسر عرمان-(27 أغسطس 2023) لإجراء لقاء مباشر بين الفريق البرهان والفريق حميدتى للنظر في أجندة لتأسيس دولة جديدة ومخاطبة جذور المشكلة. رفض الواثق كمير بشدة دعوة الأستاذ ياسر عرمان (الوريث شبه الشرعي لفكرة السودان الجديد)، ورأى أنها تتضمن ايحاء بأن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتى تشبه الحركة الشعبية بقيادة قرنق. والواقع-بحسب الواثق كمير- أنه لا يوجد وجه للمقارنة أصلاً، إذ أن جيش الحركة الشعبية لم يقم بمهام عسكرية في دولة أجنبية مقابل المال، ولم يكن تابعاً لأسرة “آل مبيور”. أما قوات حميدتى فيعزوها المشروع السياسي والقاعدة الاجتماعية العريضة وتقوم على العصبية الأسرية والعشائرية؛ وهي جيش يقوم على حماية مصالح اقتصادية لتحالف قوى داخلية وخارجية؛ وهي ليست بحركة سياسية ولكنها تحاول أن تستعير مضامين ومفاهيم ومصطلحات رؤية “السودان الجديد”. وصدق دكتور الواثق في كل هذا ولم يعقب عليه الأستاذ ياسر. ولا شك أن الفريق حميدتى وجنوده كانوا في حاجة ” للاستعارة”، فهو سياسي مغامر توفرت له عصبية اجتماعية وفيوضات مالية ولكنه يبحث عن “فكرة كبيرة” يمكن أن ينضوي تحتها. أما إذا نظرنا إلى المسألة من ناحية السيد ياسر عرمان ومن معه من ناشئة السياسيين في قوى الحرية والتغيير فسنجد أن هؤلاء ليس لديهم من مصادر قوة إلا المتبقي من فكرة “السودان الجديد”، ولذلك فهم يحتاجون “لاستعارة” “قوة صلبة”-عسكرية-اقتصادية، ولا مانع لديهم أن تكون هي قوات الدعم السريع، ولا مانع لديهم أن يستعيروا الفريق حميدتى ليحل محل العقيد جون قرنق. وهذا أمر نحتاج أن نفصله فيما يلى.

قوى الحرية والتغيير والبحث عن القوة الصلبة.
إذا جاز أن نستعير مفهومي ” القوة الناعمة” و “القوة الصلبة ” اللتين سار عليهما جوزيف ناي، الاستاذ بجامعة هارفارد، فيمكننا أن نقول إن قوى الحرية والتغيير (بأجنحتها المختلفة) قد استنفدت- بوتيرة متصاعدة- كل القوة الناعمة التي توفرت لها- من زخم ثوري، ورمزية نضاليه، ومهارات تنظيمية، وتعاطف شعبي؛ إذ صار شباب الثورة يهتفون ضدها بشعار: “بي كم قحاطة بعتوا الدم” في كل المحافل. كما فقدت من ناحية أخرى “القوة الصلبة” التي كانت توفرها حركات المعارضة المسلحة- خاصة بعد “اتفاقية جوبا”، والتي انضمت بموجبها تلك الحركات إلى الحكومة القائمة-متباعدة تماماً عن قوى الحرية والتغيير. أما الحاضنة المالية “شبه الصلبة” المتمثلة في التمويل الذي كان يقدمه بعض رجال الأعمال الناشطين فقد أخذت هي الأخرى في الانكماش (كحالة أسامة داؤود وغيره ممن صار يرى أن قيادات قوى الحرية والتغيير مجرد عيال). ولم يبق أمامها في هذه الحالة إلا البحث عن القوتين معاً: الناعمة والصلبة. وفى بحثها عن قوة ناعمة عثرت على بقايا من الأفكار التي تركها جون قرنق عن مشروع “السودان الجديد العلماني الديموقراطي”، فالتقطتها على عجل دون تمثل كاف لها. أما فيما يتعلق بالقوة الصلبة فلم تكن توجد أمامها خزينة مفتوحة وبندقية متاحة غير خزائن وبنادق الدعم السريع تحت قيادة حميدتي؛ يضاف إلى ذلك النفوذ الذي وفره لها المجتمع الاقليمي والدولي الذي صار يتحرك بأريحية تامة في السودان، سواء من خلال السفراء أو أجهزة الاستخبارات، أو الوكالات، أو المبعوث الدائم للأمم المتحدة. وهذا على وجه التحديد هو المنعطف الذي تعاظم فيه دور مبعوث الأمم المتحدة فولكر بيتريس. فبدلاً من جلب الدعم للمساعدة في عملية الانتقال الديموقراطي-كصياغة الدستور وقانون الانتخابات، أنصرف للعمل الحزبي المباشر، وأخذ يتماهى مع أجندة قوى الحرية والتغيير (ويوفر لها غطاء دولياً وقانونياً)، مما جعلها تنشط في الجهود الرامية لتفكيك المؤسسة العسكرية باعتبار أن تلك العملية ستمهد لها الطريق للتمكن من مفاصل الدولة وبناء السودان الجديد. ولما لم يكن مثل هذا التفكيك ميسوراً بغير قوة صلبة ضاربة فقد لزم اللجوء إلى معسكر الدعم السريع، باعتبار أنه إذا ابرم تحالف بين الدعم السريع وقوى الحرية والتغيير، وتماسك هذا التحالف لفترة مناسبة، فستكون هذه المرة الاولى التي يتثنى فيها لقوى الحرية والتغيير أن تجد بين يديها القوتين معاً: الناعمة والصلبة، وقد يشكل ذلك منعطفاً حقيقياً في مسار السياسة السودانية. ولكن هب أن قوى الحرية والتغيير قد امتطت صهوة الدعم لسريع، وهب أن الفريق حميدتى وقواته قد استوعبوا فكرة السودان الجديد، فهل الفكرة ذاتها قادرة على إنجاب سودان جديد يكون أفضل حظاً من “السودان الجديد” الذي أنجبته في جنوب السودان؟

السودان الجديد ونظرية الهامش والمركز
فكرة التناقض الرئيسي بين المركز والهامش تعود-في التاريخ الأوربي الحديث- إلى أدبيات الماركسيين الأوائل، حيث كانت رؤيتهم أن المركز هو صناعة برجوازية بامتياز، وأن كل ما ينتجه البرجوازيون من ثقافة أو فن أو اقتصاد- يهدف بالأساس لتحقيق مصالح تلك الطبقة لا غير. فلابد إذن من إزاحة تلك الطبقة عن طريق الثورة الجذرية الشاملة لتتمكن الطبقة العاملة من الإمساك بجهاز الدولة واعادة ترتيب الهرم السلطوي لصالحها. ثم انتقلت هذه الرؤية-بعد نهاية الحرب العالمية الثانية- إلى دول العالم الثالث التي خرجت لتوها من هيمنة الاستعمار الأوربي (الذي كان هو نفسه ثمرة من ثمار الطبقة البرجوازية المشار اليها آنفاً). فساد القول بأن الاستقلال لم يكتمل لأن الدولة الاستعمارية قد تركت من خلفها فجوة اجتماعية واقتصادية وثقافية بين المراكز الحضرية والهوامش الريفية. ولا يوجد كبير خلاف في ثبوت هذه الحقيقية، ولكن يقع الخلاف في الكيفية التي يمكن أن تردم بها تلك الفجوة. فهناك من كان يرى-كالماركسيين القدامى-أن الفجوة لا يمكن أن تزال إلا عن طريق الثورة الجذرية الشاملة التي تقودها البروليتاريا بقيادة الحزب الشيوعي (في حالة لينين).

وهذه هي الرؤية التي تبنتها الحركة الشعبية لتحرير السودان في نشأتها الأولى في ثمانينيات من القرن الماضي. إذ كانت تدعو في ذلك الوقت إلى السودان الجديد العلماني الديموقراطي، ثم العودة إلى منصة التأـسيس. وكانت ترى أن ذلك الهدف لن يتحقق إلا بتحطيم وزوال السودان القديم (ابتداء بالمؤسسة العسكرية). وتسربت هذه الفكرة إلى كثير من قيادات الحركات السياسية الناشئة (المسلحة وغير المسلحة)، وصار أكثرهم يستعير مفاهيم ومفردات الحركة الشعبية القديمة، فيتحدث عن السودان الجديد، وضرورة العودة إلى منصة التأسيس، وأن ذلك يستلزم بالضرورة تحطيم وزوال السودان القديم. ولكن فات على هؤلاء أن العقيد قرنق نفسه أحس-بعد ربع قرن من الثورة والتحطيم-أن هذه رؤية غير قابلة للتطبيق، مما جعله يعدل مواقفه ليؤكد أن السودان الجديد ليس نقيضاً للسودان القديم، ولا يستلزم التحطيم الكامل له وبناء سودان جديد على رماده. بل ويذهب لقول إن بناء السودان الجديد هو عملية تحولية تتعلق بإعادة هيكلة القاعدة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولكن مع استصحاب العناصر الإيجابية في السودان القديم. ويرى أن “القوى التقدمية الحديثة” التي يراد لها أن تحطم السودان القديم وتبنى على أنقاضه سوداناً جديداً لا تختلف هي ذاتها عن “القوى التقليدية” التي تسعى لتحطيمها؛ فكلاهما يتصارعان حول نفس بنية الدولة من أجل السيطرة عليها. ليس ذلك وحسب، بل إن “القوى التقدمية الحديثة” تسعى-رغم حداثتها وعلمانيتها المزعومة-للتحالف مع القوى التقليدية في الريف متى ما وجدت فرصة مناسبة. وليس بخاف أن الحركة الشعبية ذاتها ظلت-وفقاً لهذا التصور الجديد- تتقارب وتتحالف مع زعيمي الطائفية في السودان-“مولانا” محمد عثمان الميرغني و”الامام” الصادق المهدى. وليس بخاف أيضاً أن العقيد قرنق لم يتباعد عن فكرة “تحطيم المركز” وحسب، وإنما صار ضلعاً في المركز حينما صار نائباً للرئيس السابق عمر البشير.

ورغم كل هذا فقد ظل بعض الناشطين في قوى الحرية والتغيير ممسكين بالفكرة القديمة في مشروع السودان الجديد، وذهبوا يزوقونها ويسوقونها للفريق حميدتى وجنوده دون أن يدركوا التغيرات التي أجريت عليها، أو النتائج التي أفضت إليها. ولكن سرعان ما اتضح أن تقاربهم من قوات الدعم السريع لم يكسبهم القوة الصلبة التي يبحثون عنها، ولم يبق لهم قوة ناعمة يستندون اليها، أو جمهوراً يعودون إليه.

خلاصات:
إذا استثنينا بعض التباينات والتفاصيل الدقيقة التي تميز ظاهرة القذافي عن ظاهرة حميدتى، فإن هناك طريقتين يلتقيان فيهما: طريقة الصعود إلى السلطة وطريقة السقوط منها. فكما أن العقيد القذافي صعد إلى السلطة واحتفظ بها بعد اختراق وتفكيك متعمد للمؤسسات العسكرية النظامية، واستبدالها بعصبية عشائرية موالية، فقد صعد الفريق حميدتى بالطريقة ذاتها. وقد توفرت له من أسباب القوة العسكرية والمالية والدعم الاقليمي ما لم يتوفر للعقيد القذافي أو للرئيس عمر البشير. ولولا بعض الملابسات وردود الفعل غير المتوقعة التي أحبطت خطته في اللحظات الأخيرة لكان من الممكن أن يستولى على السلطة السياسية في السودان ويحتفظ بها لعشرات السنين. أما العوامل التي أدت لسقوط الفريق حميدتى فهي العوامل ذاتها التي أدت لسقوط العقيد القذافي، وهي: هشاشة الفكرة، وتضارب المؤسسات، وهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام. فالفكرة الأيديولوجية التي تضمنها الكتاب الأخضر كانت فكرة فطيرة لم تنبع عن قناعات شعبية ولا تعبر عن واقع. أما المؤسسات البديلة التي استحدثها العقيد (بعد التفكيك المتعمد لمؤسسات الدولة العسكرية والمدنية) فكانت تشكو من تناقض الأهداف وضعف السياسات، وتقلب رغبات الزعيم. أما العامل الثالث فيتعلق بهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يقوم عليها النظام، فهي قاعدة عشائرية ضيقة، تحيط بها شبكات من أصحاب المصالح، ويتحكم فيهما من الداخل زعيم واحد مع أفراد أسرته.
فاذا اسقطنا هذا النموذج على تنظيم قوات الدعم السريع فسنجد حضوراً كبيراً لكل العوامل التي أدت لانهيار نظام العقيد. فان سقط نظام العقيد بسبب هشاشة الفكرة فإن النظام الذي شيده حميدتى لم يكن يستند على فكرة خاصة به، بقدر ما كان يتجاوب من حين لآخر-وبشيء من عدم الجدية- مع بعض الأفكار التي تطرح عليه من قبل حلفائه في الداخل أو الخارج، أما مؤسسته العسكرية-الأمنية-الاقتصادية التي أقامها فكانت في حالة تضارب مستمر مع مؤسسات الدولة القائمة، وكادت أن تقتلع المؤسسات الرسمية للدولة من جذورها، مما جعل الصدام بينهما أمراً محتوماً. أما العامل الثالث والأخير فهو يتعلق بهشاشة القاعدة الاجتماعية التي يستند عليها، فهي هشة لأنها تقوم على مجموعات عشائرية محدودة، وتديرها من الداخل عائلة واحدة، ويقف على رأسها زعيم أوحد هو الفريق حميدتى. أما الشرائح الاجتماعية التي تلتف حول هذه القاعدة فهي شرائح تبحث عن مصالحها الخاصة-سواء كانت متعلقة بمراكمة الثروة، أو بالاقتراب من دهاليز السلطة. وفى كلتا الحاتين فان مثل هذه الشرائح لا يتوقع منها أن ترفع أصبعاً واحداً للدفاع عن حميدتى وجنوده إذا احتاجوا لمن يدافع عنهم.

بيد أن شراسة القتال والإستماتة التي أبدتها مجموعة حميدتى العشائرية في حرب الخرطوم الأخيرة لا يمكن انكارهما. ورغم هذه الشراسة القتالية إلا أنها فقدت جل مقاتليها وقادتها الميدانيين. وهذا الأمر سيمثل خسارة كبيرة للجهات الداخلية والخارجية التي كانت تراهن على انتصار قوات الدم السريع؛ كما سيمثل صدمة نفسية أكبر لمن تبقى من هذه القوات. وحيث أنها لا تملك رؤية ولا قيادة ولا تعرف من هو العدو فليس أمامها من خيار غير الاستسلام، ولكن ليس من المستبعد أن تزداد بعض عناصرها تمسكاً بنظرية الهامش والمركز والسودان الجديد. كما أنه من غير المستبعد أن تدفعها الهزيمة العسكرية والعصبية العشائرية إلى الاندفاع في اتجاه الأصولية الاثنية (ethno-fundamentalism)-كما وقع في حالات مماثلة- حيث يحاول الأصولي الاثني أن يفسر التاريخ من منظور الهيمنة المركزية لمجموعة عرقية معينة على المهمشين من العرقيات الأخرى. ويرى أن هناك قوميات متنفذة ظلت تسيطر على الثروة والسلطة لفترات طويلة، وأنه قد آن الأوان لإزاحتها بالقوة وافساح المجال للقوميات الأخرى ممن كان على الهامش. وهذا نوع من النظر الأحادي قد يعيق أي محاولة جادة للبحث عن إطار قومي أوسع يتجاوز العصبيات العرقية ويحقق العدالة للجميع.

أما دعاة الحرية والتغيير الذين ينادون بتحطيم السودان القديم والعودة إلى منصة التأسيس، فلم يبق أمامهم-بتقديري- غير خيارين: التراجع الاستراتيجي أو التمادي في تكرار تجربة المواجهة المسلحة. والخيار الأول يقتضي مراجعة المواقف وتغيير الاستراتيجية- خاصة بعدما شاهدوا نموذج السودان “الجديد” الذي قدمته قوات الدعم السريع في الحرب الأخيرة، وبعدما رأوا صمود عناصر القوات السودانية المسلحة وتماسكها، وما حظيت به من تأييد شعبي غير مسبوق. أما خيار التمادي في المواجهة فيعنى التشبث بفكرة تفكيك السودان القديم وإعادة بنائه من الصفر. ولكن هذه الفكرة تحتاج إلى أرض محررة وإلى جيش يقاتل من أجلها وإلى حاضنة اجتماعية تتبناها، وهذه أمور ليست متوفرة الآن لقوى الحرية والتغيير بعد خروج قوات الدعم السرع من المشهد. وكل ما هو متاح لديها الآن هو أن توثق علاقاتها مع بعض العواصم الأجنبية، وأن تنتكس إلى نوع من المعارضة الخارجية الناعمة. وهو نوع من المعارضة يحول أصحابه تلقائياً إلى جماعات وظيفية يدعمها الخارج ويحافظ على وجودها مقابل أن يستخدمها للدفاع عن مصالحه بالطريقة التي يراها وفى الوقت الذي يريد.

أما الحقيقة المرة التي يحتاج جمهور المواطنين إلى قبولها والتعايش معها فهي أنه لا يوجد شرٌ مطلق يسمى السودان القديم، كما لا يوجد مجتمع فاضل يسمى السودان الجديد. كل ما لدينا هو هذا السودان الفقير المشتت والمثقل بالديون وبالجراح. فإما أن نتواضع ونعود إلى “كلمة سواء” بيننا، فنجمع شمله ونضمد جراحه ونعكف على إصلاحه-مع ما يستلزم ذلك من صبر وتسامح وحكمة-وإما أن ننخرط في موكب الكراهية والمفاصلة والتحطيم، فنتحول من ثم إلى مجرد شعب لاجئ ومشرد يبحث عن المأوى والطعام. ولا قوة إلا بالله.

التيجاني عبد القادر حامد
7 أكتوبر 2023
(عن مجلة آفريكا فوكس، العدد 10أكتوبر 2023)

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى