السياسة السودانية

“حميدتي” وفن تحريف الحقائق.. هل يتعلم السودانيون من تاريخهم القريب؟

كشف قائد “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو، المعروف بـ “حميدتي”، في خطابه الانفعالي المسجل، الذي بثه مساء الاثنين 4 أبريل/نيسان 2023، عن اجتماع ضمه مع القائد العام للجيش السوداني عبدالفتاح البرهان، قبل عشرة أيام من اندلاع الحرب، في مزرعة معاوية البرير.

وقال حميدتي إنه تقدم بمقترح في ذلك الاجتماع لخلق توأمة بين الجيش و “قوات الدعم السريع”، وذلك في سياق معالجة قضية تعدد الجيوش والقوات العسكرية في السودان.

ولعل هذا الاعتراف الذي ورد على لسان صاحبه ينهي جدلا حول استمرار التحالفات السياسية المعلنة والمخفية مع قوات الدعم السريع بتبرير التزامها بالاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه يوم 5 ديسمبر/كانون الأول 2022، في ختام عملية سياسية مرتبكة كانت تسعى لإنهاء انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 والذي كان سينهي تعدد الجيوش في السودان حسب زعمهم.
وفي حقيقة الأمر، إن الاتفاق الإطاري شرعن استقلالية قوات الدعم السريع بشكل غير مسبوق في أي مكان في العالم أو في التاريخ، عن قيادة الجيش وعن الجهاز التنفيذي، بأسلوب غذى بشكل متسارع طموحات مالك الميليشيات، للحفاظ على هذا الوجود المستقل بشكل أكبر ودائم- وهو ما عبر عنه حميدتي بمقترح التوأمة المذكورة.

وقد زاد من هذا الطموح، الدعم الدبلوماسي الكبير الذي وجده الاتفاق الإطاري في سياق دبلوماسية “أي حل سيليق بهم” الذي تبنته ولا تزال تتبناه مراكز القوى الغربية العاملة في السودان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.

ولكن الشاهد وواقع الحال اليوم، يعيد تأكيد البداهة المنطقية، وهي أن الحلول السيئة ليست حلولا على الإطلاق ولكنها تمهد لأوضاع أكثر كارثية كالتي نشهدها في الحرب الأهلية المستعرة اليوم في السودان.

وأيضا ضاعف من هذا الطموح اتفاق الحصانة المطلقة التي منحها الاتفاق الإطاري للقيادات العسكرية لكل من الجيش وقوات الدعم السريع عن الجرائم التي تم ارتكابها مسبقا، وتحميل مسؤوليتها الكاملة للجنود والضباط الذين ارتكبوها بشكل مباشر.

بالإضافة إلى إغفال الاتفاق الإطاري التعاطي مع معضلة التمدد الاقتصادي لإمبراطورية “قوات الدعم السريع” المالية. وهو الأمر الذي تم فيه النص بوضوح على منع الجيش والشرطة من ممارسة أي أنشطة اقتصادية غير تلك المتعلقة بالتصنيع الحربي، ولكنه تعامل مع أنشطة وإمبراطورية قوات الدعم السريع الاقتصادية كممتلكات شرعية لحميدتي وحلفائه.

وقد تناسى الاتفاق والمدافعون عنه أن هذه الإمبراطورية الاقتصادية نشأت وتمددت نتيجة للفساد والتمكين السياسي في عهد البشير والامتيازات التي منحها البشير لحميدتي لبناء جيش حمايته الخاص. وهي في حقيقتها أموال منهوبة من ثروات الشعب السوداني وحقوقه.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه “المجلة” مباشرة الى بريدك.

تخضع اشتراكات الرسائل الإخبارية الخاصة بك لقواعد الخصوصية والشروط الخاصة بـ “المجلة”.
الاتفاق الإطاري شرعن استقلالية الدعم السريع بشكل غير مسبوق في أي مكان في العالم أو في التاريخ عن قيادة الجيش وعن الجهاز التنفيذي بأسلوب غذى بشكل متسارع طموحات قائد الميليشيات للحفاظ على هذا الوجود المستقل بشكل أكبر ودائم

ولكن الاتفاق الإطاري وراكبي قاطرته المحليين والدوليين تجاهلا أن هذه الإمبراطورية المالية يتم استخدامها في عمليات الإفساد والرشى السياسية بكثافة منقطعة النظير. وأنها عملت وبشكل مباشر على تمويل شراء واستقطاب الإدارات الأهلية بعد فض الاعتصام وتمويل اعتصام القصر الجمهوري الذي مهد لانقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وكما كانت عاملا أساسيا في إفساد إجراءات الإصلاح الاقتصادي وإعادة بناء تحالف الفساد والاستبداد الذي ظهر وجهه جليا في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 والذي أنهى الفترة الانتقالية، وذلك غير شراء الذمم وتوزيع العطايا والهدايا لاستمالة الأصوات وإسكات الانتقادات وشراء الأبواق الإعلامية داخل وخارج البلاد بما ساهم في انحدار الوضع السياسي إلى حالة الانحطاط المزري الذي وصل إليه الآن.

ولم يتوقف حميدتي عن الإشارة لهذا النفوذ المالي في مغازلته لمن سماهم “الشرفاء من ضباط وجنود الجيش”، وهو يتحدث عن ضمان حقوقهم المالية عند التقاعد- التي ستدفعها الدولة وليس البرهان بحسب قوله- إذا انسلخوا عن الجيش، في حين هددهم في ذات الحين بالمحاكمة وعدم تلقي هذه الحقوق في حالة وقوعهم في أسر قوات الدعم السريع.
حميدتي لا يزال يلوح بسيف المعز وذهبه وهو يتوهم سيطرة تتيح له إمكانية حسم المعركة عسكريا، بالرغم من أن قرابة خمسة أشهر من الحرب قد أثبتت جليا عدم قدرة أي من الطرفين على حسم هذه المعركة عسكريا.

تحدث حميدتي أيضا في خطابه المسجل عن وجود طيران عسكري أجنبي في قاعدة مروي، والتي كان قد حرك قواته لمحاصرتها في 13 أبريل/نيسان 2023، وهو الفتيل الذي أدى بشكل مباشر إلى اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان. وكان حميدتي يشير هنا إلى طاقم الطيران المصري الموجود في القاعدة. ولكن حميدتي يتناسى أو يتجاهل بشكل مباشر أن هذا الطيران موجود بصورة شرعية ومعلنة في سياق معاهدات دفاع وتدريب مشتركة تربط البلدين. وأن مناورات التدريب الجوي هذه ليست الأولى بل إنها تجري بصورة دورية سنوية ويتم الإعلان عنها. كما أن حميدتي وفي نفس سياق الوجود العسكري الأجنبي، لم يتحدث عن علاقاته العسكرية الخارجية؛ فلم يتحدث مثلا عن وجود عناصر “فاغنر” وقاعدة التدريب والإمداد التي أنشأتها الشركة في أم دافوق على الحدود السودانية مع أفريقيا الوسطى، ولم يتحدث عن الإمداد العسكري الذي يتلقاه من دول أجنبية، والتدخلات التي تقوم بها قواته في ليبيا، ولم يتحدث عن طائرات تهريب الذهب واستيراد السلاح التي تجري بين مطارات بورتسودان وطرطوس، بل وحتى لم يتحدث عن إغلاقه بشكل منفصل ودون التنسيق مع بقية أجهزة الدولة أو حتى إبلاغها، للحدود مع أفريقيا الوسطى في مطلع هذا العام لحماية النظام الموالي لروسيا هناك من محاولة انقلابية.

لم يتحدث حميدتي في المقابلة التلفزيونية الأخيرة عن علاقاته العسكرية الخارجية؛ فلم يتحدث مثلا عن وجود عناصر “فاغنر” وقاعدة التدريب والإمداد التي أنشأتها في أم دافوق على الحدود السودانية مع أفريقيا الوسطى، ولم يتحدث عن الإمداد العسكري الذي يتلقاه من دول أجنبية والتدخلات التي تقوم بها قواته في ليبيا

حميدتي في حالة إنكار كامل لحقيقة أن منظومة قوات الدعم السريع، كانت ولا تزال مؤسسة مرتبطة في الكامل بأطراف خارجية في إطار خدمة وتحقيق طموحات مالكها.

تحدث حميدتي بشكل متقطع عدة مرات عن أنهم يدافعون عن أنفسهم ويسعون للدفاع عن الوطن واستعادة الديمقراطية وعن شجبهم للعنصرية، ولكنه لم يوضح كيف يدافعون عن أنفسهم باحتلال بيوت المواطنين وطردهم منها. ولم يوضح كيف يتسق سعيهم للديمقراطية مع ارتكاب جرائم القتل الجماعي واغتصاب النساء أو نهب الممتلكات.

لم يقل حميدتي كيف يتسق شجبهم للعنصرية مع تهجير المساليت أو جريمة اغتيال المرحوم خميس أبكر والي ولاية غرب دارفور والتمثيل بشكل وحشي بجثته، وحالة العنف الواسع على أساس إثني التي اجتاحت الولاية والإقليم بعد ذلك. حميدتي يعيش في حالة إنكار كامل للواقع، ويعيش في السردية البديلة التي يحاول هو وبقية الناطقين باسم قوات الدعم السريع إيهام الناس بها وإنكار ما يرونه بأعينهم ويعيشونه كل اليوم.

نقضَ خطاب حميدتي المسجل، كل الغزل الذي حاول طه عثمان إسحق- ممثل قوى الحرية والتغيير- نسجه في لقاء آخر على قناة “الجزيرة” في اليوم الذي سبقه. حاول الضيف جاهدا في ذلك الخطاب، تدعيم سردية قوات الدعم السريع عن الاتفاق الإطاري وعن اندلاع الحرب وعن الاتفاق الإطاري، بل رأى سودانيون ممن شاهدوا المقابلة أنها كانت تبرر بشكل خجول انتهاكات الدعم السريع بذكر أن هذه الانتهاكات هي ما ظلت قوات الجيش السوداني تمارسه في حروب الجنوب ودارفور.

لم تتعلم قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، من هذا الدرس، ومما حدث في تأسيس الجبهة المدنية لإيقاف الحرب واستعادة الديمقراطية. وأعلنت قوى الحرية والتغيير عبر واجهاتها المختلفة تأسيس هذه الجبهة ببيانها الصادر يوم الخميس 27 أبريل/نيسان. وبالفعل وقع عليه عدد كبير من المنظمات المدنية السودانية، تصدرتها تنظيمات قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي، بالإضافة إلى عدد من لجان المقاومة ومنظمات المجتمع المدني والشخصيات السودانية.

ولكن لم تلبث أن تفرقت مكونات هذه الجبهة بين أيدي سبأ، بعد أن شهدت استقالات متعددة من مكونيها وانسحابات أخرى من بعض مكوناتها، تعللت كلها باعتراضهم على منهج إدارتها واتخاذ القرار باسمهم فيها. ثم جاءت الطامة الكبرى بعد البيان الذي أصدرته الجبهة في مطلع مايو/أيار وهو الذي تضمن اختلاق واقعة حوادث اغتصاب ونسبتها إلى الجيش السوداني، وذلك من أجل المساواة في ذكرها وإدانتها مع حوادث الاغتصاب الموثقة التي ارتكبتها قوات الدعم السريع والتي أثارت ضجة واسعة في حينها.

وقد أثار هذا الاختلاق فضيحة كبرى أدت لاحقا إلى سحب البيان واعتذار الجبهة المعنية عنه في 15 مايو/أيار 2023، ولكنه أدى إلى انكشاف انحيازها السياسي وإلى مزيد من الانسحابات للمكونات والشخصيات المكونة لها، حتى لم يتبق فيها إلا تنظيمات قوى الحرية والتغيير.

إذا ما كان حميدتي قد صدق في خطابه المسجل في أمر واحد، فهو الرسالة التي وجهها حميدتي إلى البرهان بالقول (دولة 56 انتهت يا صاحبي!). وبالفعل فإن هذه الدولة قد انتهت بكل مؤسساتها وهياكلها ومنتجاتها القديمة وعلى رأسها قوات الدعم السريع والتي هي أحد أفظع منتجات دولة التمييز والقمع الذي صنعته هذه الدولة خلال عهد البشير لممارسة العنف البنيوي ضد الشعب السوداني. وأن إيقاف الحرب سيحدث فقط عبر العودة للأساسيات المبدئية في بناء جهاز الدولة والتي على رأسها حياده السياسي وضرورة احتكار العنف الشرعي لجهة واحدة في أي بلد.

قائد الجيش السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان في زيارة لقاعدة فلامنغو البحرية في بورتسودان في 28 أغسطس 2023

إن أي اتفاق أو تفاوض على إعادة تقسيم السلطة السياسية أو العسكرية بين مكونات شاركت في إشعال هذه الحرب، والتعامل مع السودان وكأن 15 أبريل/نيسان لم يكن، سيكون مكتوبا عليه الفشل وعودة الحرب بشكل أفظع في القريب العاجل.

إن نزع التسييس عن المؤسسة العسكرية وبقية أجهزة الدولة لن يكون بإضافة جيوب مسيسة جديدة إلى هذه الهياكل، بل بنزع الجيوب المسيسة الموجودة فيها أصلا. ناهيك عن أن حميدتي كشف في خطابه الانفعالي لقناة “الجزيرة” عن أن موافقته على الدمج الذي تضمنه الاتفاق الإطاري- على سوأته- كانت مجرد مناورة تكتيكية بينما هو يسعى في اجتماعاته مع البرهان حتى مطلع أبريل/نيسان إلى ضمان استقلالية قواته عبر توأمتها مع قوات الجيش السوداني وليس دمجها.

كل الحديث والروايات عن التفاوض على فترات الدمج ومدده الزمنية وخططه التنفيذية لم يكن سوى مزايدات للمناورة كما كشف حميدتي، وإن كان ذلك واضحا حتى من قبل خطاب حميدتي المذكور، من الفترات الزمنية المطولة غير المعقولة والتي تراوحت بين 22 عاما في طرح الميليشيات

و10 أعوام في طرح قوى الحرية والتغيير- المجلس المركزي؛ فجهاز الدولة بكافة مؤسساته لا يجب أن يكون غنيمة يتم تقاسمها بين أمراء الحرب.

“جئتكم بالسلام في عصرنا”، كانت هذه هي العبارة التي قالها رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين بعد توقيعه على اتفاقية ميونيخ مع أدولف هتلر في سبتمبر/أيلول 1938. وهدفت تلك الاتفاقية بشكل أساسي إلى استرضاء هتلر عبر تسوية تتضمن القبول بضمه لمنطقة السودييت التابعة لتشيكوسلوفاكيا للحفاظ على ما بدا أنه استقرار في القارة الأوروبية حينها. ولكن “اتفاقية عنا، ومن دوننا” (About us, without us) كما سماها التشيك، انتهت بعد ستة أشهر فقط من توقيعها باحتلال هتلر لكافة أراضي تشيكوسلوفاكيا ثم اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول 1939 وملايين القتلى في مجازر الإبادة الجماعية ومحارق الغاز والمعارك الحربية على امتداد العالم.

ما حدث في السودان منذ توقيع الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر/كانون الأول 2022 وحتى اندلاع الحرب في 15 أبريل/نيسان 2023 يعيد شبح ميونيخ إلى الأذهان. وإذا لم يتعلم السودانيون من التاريخ العالمي، فالأجدر بهم أن يتعلموا الآن من تاريخهم القريب قبل إعادة تكرار الأخطاء.

أمجد فريد الطيب
سبتمبر 2023


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى