السياسة السودانية

ابراهيم احمد الحسن يكتب.. في حفرة الشيطان

[ad_1]

طارت الكرة لتستقر داخل مصنع الزيوت المهجور طرف المدينة ، هذا آخر ما كان يتمناه عبدالمعين .. والآن كيف الوصول إلى الكرة ومباني المصنع يسكنها مارد من الجن . أو هكذا كان يتم تداول الأحاديث الهامسة والأساطير المنسوجة بقوة الشائعات وحبالها العنكبوتية بوهنها ودقة نظمها. ما كان أمام عبدالمعين إلا أن يدخل المبنى المهجور لإحضار الكرة، خوفاً من اتهامه بالتقصير من قبل أصدقائه وقد ائتمنوه على الكرة ومستلزمات اللعب .
الدخول للمبنى كان مغامرة والمبنى الذي لم يتجرأ أحد على الدخول إليه، تركه أصحابه دون حراسة وبلا خفارة، نهباً للشائعات وأساطير الحكايات صنع الخيال .
مذ سكنت أسرة عبدالمعين ذاك الحي العريق والشائعات تلاحق المصنع القديم والمهجور ، ولج عبد المعين المبنى من فتحة صغيرة جوار الباب الكبير والذي أُحكم رتاجه بجنازير وسلاسل وطبلة كبيرة صدئة تماماً ، دخل عبدالمعين إلى هناك بين خوفين كبيرين؛ الأول من أصدقائه الذين لن يظنون به خيراً إذا قال لهم إن الكرة طارت إلى المصنع المهجور بفعل ركلاته المشهودة، وأن يكون عبدالمعين هو الذي يقول لهم، ها هو ينتظر حضورهم ليدخلوا إلى الشيطان في وكره ومكمنه جماعة كثيرة تهزم الشجاعة، والخوف الثاني من المبنى المهجور والأحداث المجهولة على مسرح دهاليزه والمكن المعطل والآلات الصامتة . عبد المعين ودثاره خوف ثم خوف، دلف إلى مباني المصنع، دخل على نواح الريح واصطكاك الصرير ، لحظات مهيبة والحديد يلطم الحديد وألواح الزنك المشروخة تتدلى من السقف ويلعب بها الهواء، فيعلو الصفير ويتجاوب معه الشخير في إيقاع منتظم، ووشيجة أشبه بسيمفونية نشاز يقود الاوركسترا فيها شيطان مريد ، ماكينات ضخمة ملطخة بالزيوت وملوثة بالشحوم ، سال على جنباتها وقود تحجر، انحدر ثم توقف وما انسكب بفعل التقادم بعد أن تراكمت فوقه طبقات من الغبار تلتصق به بلا فكاك، فصنعت سطحاً سميكاً من الصدأ يستعصى على صقل اوكسجين الهواء وتخاله جزءاً من حديد المكن، دخل عبد المعين المكان يبحث عن الكرة .
ولأنهم يخافون لعنتها يتجنب السكان المحليون في تلك المنطقة من اليمن بالقرب من صحرائها الكبرى في حدودها مع سلطنة عمان الحديث عن بئر برهوت أو بئر الجحيم، وفي قول آخر سجن الشياطين وتعتبر البئر التي هي في الأصل ظاهرة طبيعة لا تفسير علمي محدد لحدوثها وتكوينها، وإنما مرجعية من الأساطير والأقاويل القديمة، الحكاوي تحيط بها لتجعل منها لغزاً محيراً عصي على التفسير، فهي قعر الجحيم كما تقول الأساطير، حتى إن الأهالي هناك يتجنبون الحديث أو ذكر هذه الحفرة الغريبة التي يحيط بها الغموض، وكل ذلك لأنهم يخافون أن يلحق بهم أذى جسيم أو سوء أو يصيبهم مكروه؛ إن هم تحدثوا عنها أو أتوا على سيرتها .
وحفرة الجحيم الأخرى، وإن شئت قعرها !! التاريخ يدون أسباباً عديدة لنشوئها؛ فيرجع سبب تشكل هذه الحفرة كما تقول الروايات وأساطير الحكايات عندما قام الجيولوجيون السوفيت من النفاذ إلى قشرة صحراء كاراكوم بالقرب من قرية ديرويز، كانوا يبحثون عن الغاز الطبيعي ووقود الطاقة الذي كان وما زال يشغل العالم، ولجأوا أثناء تنقيبهم إلى كهف طبيعي ممتلئ بالغاز، وما أن عبثت به آليات التنقيب حتى انهار، ثم أشعلت الأساطير ناراً واشتعل ، ونشأت في الكهف حفرة الجحيم وقعر جهنم، التي ما زالت مشتعلة يندفع لهيبها عنان السماء وتطلق غازاتها وسمومها في الغلاف الجوي، ثم يقبع على حضيض دركها تفاعلات تنتج الأساطير، الخزعبلات، الأَكاذِيب والاعتقادَات الوَاهية. ثم بدأت تظهر حول الكهف وحفرة جحيمه أحداث وظواهر خارقة، ضخمتها الأساطير ونسجت حولها الروايات والقصص المرعبة والأحداث الخيالية، أساطين من الخرافة تسير على قدمين.
بكل تأكيد ما كان عبدالمعين يعرف شيئاً وقتها عن الحفرتين، حفرة الشيطان وحفرة الجحيم ، ما كان يعرف برهوت ، وما كان قد سمع بقشرة صحراء كاراكوم، ولا يعرف موقع قرية ديرويز في الأطلس، فكان سجن الشياطين عنده مجهولاً، وقعر جهنم ليس إلا الذي هو فيه الآن يرتاده وجلاً خائفاً، فكل الذي كان يعرفه وهو يدلف إلى المصنع القديم مضطراً لا بطل، هو أنه تسكنه زمرة من مردة الشياطين وجعلت منه الأساطير مكاناً ممنوعاً منه الاقتراب . عبدالمعين هنا كان كما الشاعر تاج السر الحسن الذي أبدع حينما نظم ( آسيا وأفريقيا ) وقال إنه ما زار يوماً اندونيسيا أرض سوكارنو ولا شاهد روسيا، إلا أنه برفقة السنا نظما أجمل أغنياته نشيد تترنم به الأجيال، للوهلة الأولى لم يجد عبدالمعين الكرة في أي مكان في المصنع، ازداد خوفه وسمع ضربات قلبه تتعالى، والكرة مفقودة بين أجزاء المكن الموحش والجدران التي تكلم الريح وحفيفها. كاد عبدالمعين ومع ما به من شجاعة أن يستدير إلى الخلف في هروب إلى الأمام، فلم يكن يدرك الخطر الماحق الذي ينتظره بين المكن وهدير الرياح وصفير الأساطير في المكان، فقد كان عبدالمعين هنا يخاف المجهول ويجهل المصير . طاف به خيال من المرأة العجوز التي كانت تسكن كوخاً في طرف المدينة؛ حيث لا قريب لها، وعندما ماتت دفنها رجالات الحي بهمة الجيران ونخوة العُشرة، إلا أن بخيت التمتام جزم أنه رآها تدخل المصنع في ذات الليلة التي واروها الثرى في صبيحتها عند المقابر القريبة، أقسم بخيت التمتام أنه شاهدها تلبس خرقة بالية وتتخذ من كفنها ثوباً، تحلق الناس حول بخيت وهو يحكي بقسم مغلظ أنه؛ وحين عودته من دار السينما في دورة العرض الثانية للفلم الهندي ( الصداقة او دوستي) رآها أمامه تخترق جدران المصنع القديم ، حينها قرأ المعوذتين (ونسي أبطال الفلم رامانت وموهانت ) ثم أطلق ساقيه للريح، وخلفه كلاب الحي التي توزعت بين ملاحقته والوقوف عند باب المصنع القديم تنبح العجوز التي اخترقت الحائط وأصبحت عند الكلاب أثراً بعد عين . تشم رائحة الحنوط ولا ترى العجوز . قال بخيت التمتام إن المرأة هجرت قبرها وجاءت المصنع لأنها في صباها كانت تعمل هناك، ولديها ذكريات تريد استعادتها مع رفيقاتها اللاتي سبقنها إلى العالم الآخر . بخيت التمتام كان من عشاق الأفلام الهندية ولذا لابد أنه ومن نجر خياله جعل من موت المرأة العجوز فلماً هندياً أسكنها في نهايته المثيرة فسيح المصنع المهجور، تعبث فيه مع رفيقاتها من الأموات.
بين الظلال والظلام والعتمة وبؤر الضوء من أعلى المصنع الذي جعل كثيراً من الأجهزة والآليات والمكن داخل المصنع تتخذ هيئات لأناس وحيوانات خرافية وأشجار من غابات متحجرة! وقف عبدالمعين ينظر ، شاهد داخل المصنع زرافة وأسداً وديناصور وشجرة حراز وتبلدية ، ثم إنه شاهدها هناك، المرأة العجوز، ترنو إليه بابتسامة تبدو تكشيرة من أسنانها التي تساقطت ولم يتبق منها سوى اثنتين في الفك الأسفل، وواحدة لا غيرها في الفك العلوى، أشاح عبدالمعين بوجهه بعيداً عنها، تقدم خطوتين إلى الأمام ، رأى قطعة من قماش كفنها الذي قال بخيت التمتام إنها اتخذته ثوباً، رأى القطعة تتدلى وتلثم جانب وجهه، تجمد الدم في عروقه وجحظت منه عين واحدة؛ حتى أنها تكاد تخرج من محجرها، بينما بقيت الأخرى مسبلة في ثباتٍ عميق ، مد يده يزيح قطعة كفن العجوز الميتة التي تدلت تلثم وجهه، فإذا بيده تدخل إلى عش من نسج العناكب.. خيوط تتدلى .. تتشابك .. نصبت شبكها تصطاد بها الحشرات ، أجنحة الحشرات وبقايا أرجلها وإفرازات أمعائها وخيوط العنكبوت المتشابكة صنعت في خيال عبدالمعين قطعة كفن تتدلى من السقف وتعود إلى عجوز رآها ترنو إليه من زاوية في المصنع المهجور . أزاح عبدالمعين نسج العنكبوت أمام وجهه، ثم طفق ينفض يده بضربات في الهواء من حوله ليتخلص من الخيوط التي أحاطت بمعصمه؛ تأبى فكاكاً كلما نفض يده ازدادت التصاقًا بكفة يده، ثم بساعده ترتع فيه وتصنع كتابات غريبة ورسومات لكائنات رآها تمرح بين المكن، عبدالمعين ترك خيوط العنكبوت وكائنات المصنع الغريبة وشأنها متخذاً طريق هروبه إلى الأمام، فخرج مسرعاً إلى فناء الحوش الداخلي للمصنع، وهناك رآها !! رأى الكرة ترقد بين كومة من الحشائش الجافة كأنها بيضة طائر خرافي في عش كبير ، مد يده التقط الكرة ، احتضنها ، ضمها إليه ثم انحنى يدخل مبنى المكن؛ عابراً المكان إلى الخارج ، التفت ناحية المرأة العجوز فلم يجدها ، ولم يجد الزرافة ولا الأسد ولا الديناصور ولا شجرتي التبلدي والحراز ، بل وجد ماكينات كبيرة معطوبة وجاثمة في انتظار من يصلحها ويعيد إليها الحياة، بعيداً عن الخزعبلات والخرافات ونسج الخيالات التي عجزت عن الإبداع فطفقت تلوك الأساطير.
وجد عبدالمعين نفسه في الشارع مرة أخرى وأصدقاؤه في الميدان ينتظرون بلا كرة، رأوه يخرج من براثن المصنع محتضناً الكرة ورآهم ينظرون إليه بدهشة وإعجاب وخوف، قذف عبدالمعين الكرة عالياً ثم تلقاها بركلة من رجله لتطير في الهواء وتسقط في الميدان وسط أصدقائه، ترك الأصدقاء الكرة وشأنها هرعوا نحو عبد المعين ، حملوه على الأعناق ونصبوه بطلاً صنعته الخزعبلات والأساطير والروايات المجنونة .

صحيفة الصيحة

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى