السياسة السودانية

الحياة تبدأ بعد المعاش – النيلين

[ad_1]

تَرِفُّ لي تلك الأيام كأن ما حدث فيها كان البارحة. كنا نتجمع تحت تلك الشجرة الواقعة في الإذاعة قبالة إدارة الموسيقى، أيام كان يترأسها برعي محمد دفع الله ويناوبه عبد الفتاح الله جابو، لم يكن محمدية عليه رحمة الله وقتها قائد (الصولو) الذي يخرج ممتزجاً بفوح الكمنجة، كان أمامه علي ميرغني وعربي وزفة أنغام من أنامل أخرى. طوال سنوات حياتي في الإذاعة في ذلك الأوان البهيج لم أر برعي محمد دفع الله إلا بالزي الأفرنجي الكامل، البدلة المكنّاة (الفُل سوت)، تلك بدلة مريحة للعين، رأيها ليس كبدل هذا الآوان؛ فإذا كانت تلك (بدلة) فالتي تزحمنا هذه الأيام ليست سوى (بزلة). تحت تلك الشجرة من يوم الخميس تسعد برؤية أفذاذ هذا البلد من كل المشارب المعرفية والفنية والثقافية، ترى البروفسير عبد الله الطيب ينتظر فتح الخزانة المعروفة آنئذ (خزنة فيصل) كان الصراف فيصل عليه الرحمات الواسعات رجلاً في مثل شهامة الجنيه السوداني الذي كان أنوفاً في تلك الأيام أمام فرانكلين، وصارم القسمات في وجه جورج واشنطن، ويلاقيك العطبراوي برفقة عبد العزيز محمد داؤود وعلي المك فتسمع صدى (طول يا ليل على الباسل)، وعبد الحي وعبد الله جلاب ومحمود محمد مدني وفضيلي جماع وصلاح حسن أحمد، يا سلام على صلاح هذا المبدع الذي كتب مسلسل (الحياة مهنتي) في السبعينات وأردفه بـ(حكاية تحت الشمس السخنة) فتفتحت حينها عبقرية صلاح الدين الفاضل، نضّر الله أخيرة صلاح فقد قرأت له قبل فترة قصيرة نصاً شجياً عنوانه (الليل يأتي مبكراً هذا المساء)!.

وتحت تلك الشجرة كان يجلس إسماعيل خورشيد ومحمود سراج ويطوف من حولها حسن عبد المجيد وترى تور الجر ولفيف من الموسيقيين والمغنيين والشعراء وأعضاء لجنة النصوص، كنا نحن الأصغر ظلاً من تلك الشجرة الأشبه بالدر، أنا وعوض إبراهيم عوض وعلي سلطان وعبد العظيم عوض موضوع هذه الزاوية الذي أُحيل للمعاش قبل عامين بحكم عامل السن، لكنه استطاع أن يلد من نفسه مرة ثانية!.

جرحت تلك الإحالة في حواسي ضرورة الانتباه لما تراكم من الزمن على وعينا وأجسادنا، كبرنا وأصبحنا أرباب معاشات ونحن في سن الطفولة الوجدانية!. تلك الطفولة التي لم تشفع لملفات خدمتنا التنصل من تراكم السنين.

حين أُحيل عبد العظيم عوض للمعاش قبل عامين كنت أنا أستمتع بما تبقى من لبن أسنان طفولتي، وكنت أحس أن طفولتي بدأت يوم إحالته للمعاش فنحن في سنٍّ واحدة، ولم يخذلني عبد العظيم فقد أكد لي طفولتي بزواجه للمرة الثانية متحدياً ملف خدمته بطاقة الجسد والوجدان والفضاء الذي ينفتح على العاطفة بلا مدى، ولما كان هذا التحدي لا تقاس نتائجه إلا (بالوضع على الأرض) كما يقول خبراء الأزمات، فقد بَرهَن عبد العظيم جدارة تحديه بذلك البأس الولود؛ فبعد عام من زواجه الثاني أنجب طفلته زينب التي احتفلنا بها هذا الشهر فكسب التحدي على صعيدي الجرأة والوضع على الأرض.

الأسبوع الماضي تم تعيين عبد العظيم أميناً عاماً لمجلس الصحافة والمطبوعات بما يؤكد أن الحياة الحقيقية ذريةً وتوظفاً تبدأ بعد المعاش.

من أرشيف الكاتب

صحيفة الانتباهة

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى