السياسة السودانية

محمد أزهري: الهارب! (1) – النيلين

شَابٌ على مشارف الأربعين لا يُريد من الحياة إلّا (السلام عليكم)، يصرف على أسرته في الجزيرة، أعظم همّه أن يكمل شقيقه دراسة الجامعة، إذ تعهّد هو بالصرف عليه بعد أن ضحّى بدراسة جامعة الخرطوم في مرحلة متقدمة – “عبود” يعمل غسّالاً للسيارات، كعادة أهل المهنة، قميصٌ مُهترئٌ مُبلّلٌ بمياه عكرة مخلوطة بعرق أبيض صافٍ، وبنطال مكفوف منتصف الساقين مثقوب بشكل دائري يظهر الركبتين كبطاطة محصودة من جرف نيلي، فوطة على الكتف وجركانة بلاستيك بيضاء منزوعة الرأس، عليها كريستال صابون تيري وفرشاة صغيرة، حلمه أن يتحرّك في منطقة بها ماسورة عليها حارس مقر كريم أو متعاون، غير ذاك النوع الصّارم الذي يُختار بعناية لحراسة بوابات المستشفيات العامة وعنابرها سابقاً، عرفته بعد أيام قلائل من انتقالي إلى صحيفة جديدة، إذ كان يعمل أمام مقرها ويقيم كذلك – عادةً أحب مُؤانسة أصحاب المهن الصغيرة، أنتزع منهم ضحكة كفاح خالية من بعض زيف ضحكات المكاتب والأفندية، أصافحهم فرداً فرداً كل صباح (الخبر شنو يا عمك)، فيردون (زيت وزيتون) وعلى خدودهم شامات من رغوة صابون بيضاء.. نشأت بيني و”عبود” خوة واحترام وتفقد حال، نتشارك من حين لآخر جلسات كَيف أنا كوب قهوة وهو مُغرمٌ بالشاي، اكتشفت أنّه شَابٌ مُثقّفٌ تعتريه (مسكنة) طفيفة، يخفي أفكاره عن كثير من الناس حتى لا يقع في تنازعات جراء ألسن البعض فهو راضٍ بمهنته، أحياناً يندب حظّه العاثر لتركه الدراسة في جامعة الخرطوم، لكن يظل شقيقه الأصغر أمله الوحيد، يُدين لأسرته بحب كبير، ذات يوم التقطت له مكالمة مع والدته فيها بِرٌ وتحنانٌ عجيبان ختمها يردد آمين آمين آمين، أظنها كانت تمطره بدعواتها الصالحات.

كنت أنزوي في كورنر تسده شجرة تتطوّع بأغصانها للأرض، رأيته لأوّل مرّة يتحرّك في سرعةٍ شديدةٍ عبر مسارات قصيرة مثل نملة فارقت سربها المُنتظم، العرق ينزل بغزارة من منتصف رأسه الأصلع إلى أسفل جسده مثل تائه في صحراء لوط الإيرانية أكثر مناطق العالم حرارة، عيناه الصغيرتان تكاد تخرج من أجفانهما أو يصيبهما عطبٌ من شدة استخدامهما للبحث عن شئ ما، شئ عجز حارس مقر الصحيفة في تفسيره، رغم أنه رجل مباحث سابق مغرمٌ بفتح مغاليق الأحداث وتفكيك متشابكات الجرائم، قبل دخولي علمت من بائعة الشاي أن “عبود” يحتاجني بشدة، ثُمّ كرّر الحارس ذات الأمر، جلست في مكتبي، أخرجت رزمة أوراق من جيوبي وضعتها على المنضدة مثل مشعوذ يصنع بخرات جلب العريس ورد المُطلقة، بدأت أفكك مخطوطات على الورق لمعلومات كتبتها في عُجالة فتحوّلت إلى شئٍ أشبه بروشتة طبيب فوق السبعين من ذاك النوع الذي تجد على لافتته (حاصل على الزمالة البريطانية في الطب النفسي)، قبل أن أصيغ خبراً اقتحمني “عبود” – لأوّل مرّة أرى شخصاً مُرتعباً بهذا الشكل، حاول أن يظهر هادئاً مع خوف وقلق شديدين، طلب مني الخروج معه، ابتعدنا عن مقر الصحيفة، سألته (خير يا زول)، تلعثم وهو يُردِّد يا أستاذ أنا واقع في مصيبة كبيرة، الله يستر بس – أحكي – قال إنه عمل مع طبيب لنظافة وحراسة مقر شركة أدوية لزيادة دخله، منذ أيام قليلة، وأثناء دخوله لنظافة المقر بعد نهاية الدوام وخروج الموظفين، تفاجأ بالطبيب ميِّتاً على أرضية الحمام…
نواصل ..
محمد أزهري


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى