السياسة السودانية

أي مسار تتخذه العلاقات السودانية – الإيرانية؟

أخذت وتيرة الحرب في السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الارتفاع، وأرقام العنف من قتل وتشريد واغتصاب تعكس مستقبلاً قاتماً، بحيث لا تدع مجالاً للحديث عن علاقات السودان الدبلوماسية إلا في إطار المساعدات الإنسانية ومبادرات التفاوض ووقف الحرب وإعلان السلام، ولكن بعد سبعة أعوام من قطع العلاقات بين السودان وإيران، التقى وزيرا الخارجية السوداني علي الصادق والإيراني حسين أمير عبداللهيان، على هامش اجتماع وزراء خارجية “حركة عدم الانحياز”، في 5 يوليو (تموز) الجاري، بباكو عاصمة أذربيجان.

وكان السودان قد قطع علاقاته مع إيران على أثر الاعتداء على السفارة السعودية في طهران وقنصلية المملكة في مدينة مشهد، في 2 يناير (كانون الثاني) 2016، وكانت المملكة قد حملت النظام الإيراني مسؤولية هذه الاعتداءات بكاملها وأحاطت مجلس الأمن الدولي وكلاً من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وجامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، بهذه الاعتداءات، كما أجلت البعثات الدبلوماسية السعودية من إيران.

وبعد توقيع اتفاق استعادة العلاقات بين السعودية وإيران، في 10 مارس (آذار) الماضي، بوساطة صينية، وإعادة طهران افتتاح سفارتها بالرياض، في 6 يونيو (حزيران) الماضي، مثلت هذه الخطوة تطوراً جديداً في المشهد الإقليمي، شمل إمكانية إعادة العلاقات بين مصر وإيران، ثم بين السودان وإيران، وفي الحالتين تستند هذه الإعادة إلى حل نقاط سوء التفاهم.

أما بالنسبة إلى السودان فيبدو الوضع أكثر تعقيداً في ظل الحرب وحالة “اللادولة” التي يعيشها البلد، إذ إن تعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية بين أي دولتين يستوجب وضعاً أمنياً وسياسياً مستقراً، وهذا ما يفتقده السودان في الوقت الحالي، ولكن ربما تظل هذه البادرة في إطار حسن النوايا مما قد يسهم في أي حلول مستقبلية للأزمة السودانية، خصوصاً أن طهران قدمت للخرطوم مساعدات إنسانية بواسطة الهلال الأحمر الإيراني خلال الأزمة، أو قد تكون هناك مآرب أخرى تنقشع غلالتها بعد انجلاء غبار المعركة.

وبعد نيل معظم الدول الأفريقية استقلالها خلال حقبة الحرب الباردة، كان الشاه محمد رضا بهلوي متحالفاً مع الغرب، وانتهج التقارب مع دول القارة الأفريقية لصد المد الشيوعي، فقدم مساعدات مالية واقتصادية لعدد من دولها مثل السودان والجزائر وإثيوبيا والسنغال وزائير والصومال، مستفيداً من الطفرة النفطية في بلده، ومع قيام الثورة الإيرانية عام 1979، سعت طهران بقيادة الخميني إلى تصدير الثورة للعالم الإسلامي ودول العالم الثالث، وبعد قيام الثورة قطع الرئيس جعفر النميري علاقات السودان مع إيران، وبعد سقوطه بانتفاضة شعبية عام 1985 عادت العلاقات بين البلدين، وفتحت إيران المركز الثقافي الإيراني في الخرطوم، ووطدت علاقاتها مع “حزب الأمة” إذ كانت تعتقد أن طائفة الأنصار هي الأقرب إليها، واتخذ رئيس الوزراء آنذاك الصادق المهدي موقفاً مؤيداً لطهران في حربها مع العراق، وبعد الانقلاب الذي نفذه الإسلاميون على حكومة الصادق المهدي، وطدوا علاقاتهم مع إيران عبر المكتب التنفيذي لجمعية الصداقة السودانية – الإيرانية، وبدأ تبادل الزيارات بين قيادات النظامين.

وفي التسعينيات قدمت إيران دعماً مالياً للسودان ثم تبعته زيارة الرئيس محمد خاتمي، ووقعت الخرطوم وطهران اتفاقية للتعاون العسكري عام 2008، وغير دعم المشاريع العسكرية لم يكن حجم التبادل التجاري والاستثمارات يتناسب مع التسهيلات التي قدمها النظام السابق لإنشاء قواعد عسكرية بحرية، ولكن حاول النظام الإيراني تعويض ذلك بأن لعب الحرس الثوري الإيراني دوراً مهماً إلى جانب الجيش السوداني و”قوات الدفاع الشعبي” شبه العسكرية التي أنشأها النظام، في التدريب والمشاركة في القتال في تسعينيات القرن الماضي في مناطق جنوب كردفان التي كانت تمثل امتداداً لمعارك الحكومة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان.

وتكرر اتهام الحكومة السودانية لإسرائيل بضرب مدينة بورتسودان الساحلية مرات عدة، إذ قالت إنها كانت تحمل أسلحة إلى تنظيم “حماس” بقطاع غزة، وذلك في يناير 2009، بواسطة هجوم من طائرة، وفي مايو (أيار) 2011، بهجوم صاروخي، وفي العام نفسه في سبتمبر (أيلول)، زار الخرطوم الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد، وبعدها زادت المراكز الثقافية الإيرانية التي نشطت في نشر التشيع وسط مرتاديها، ولكن الحكومة ووجهت بانتقادات كثيرة اضطرت معها إلى تقييد ذلك النشاط.

وفي يونيو 2011 زار الرئيس السابق عمر البشير طهران للمشاركة في المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب، تبعه في مايو 2012 التنسيق لإنشاء قواعد بحرية إيرانية في بورتسودان، وفي 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2012 قصفت إسرائيل مجمع اليرموك للصناعات العسكرية في الخرطوم. وأشارت تقارير إعلامية إلى أن المجمع كان يحتوي على أسلحة إيرانية ومرتبط بالحرس الثوري الإيراني، وكان موقع “ويكيليكس” قد نشر، قبل تدمير المجمع بأشهر قليلة، وثيقة أفادت بأن إيران “أرسلت معدات نووية متطورة بينها أجهزة طرد مركزي للسودان”، وبعد ذلك رصدت مغادرة سفينتين حربيتين السودان بعد توقف قصير في ميناء بورتسودان.

وتزامن نشاط إيران في السودان في ظل نظام البشير مستفيدة آنذاك من تصاعد المشاعر المعادية للغرب، خصوصاً الولايات المتحدة، مع نشاطها أيضاً في منطقة القرن الأفريقي، وقد ذكر الكاتب الكيني علي مزروعي أن “الطموحات الإيرانية في منطقة القرن الأفريقي كانت ترتكز على ثلاثة محاور، دبلوماسي واقتصادي وجيواستراتيجي وأمني، في عام 1999 سعت طهران إلى توطيد علاقاتها مع جيبوتي، وفي عام 2014 أنشأت مركزاً شيعياً كبيراً هناك، أما في إريتريا فقد دشنت قاعدة عسكرية عام 2009، تطل على مضيق باب المندب، كانت تستغلها لدعم ميليشيات الحوثي في اليمن، كما ركزت وجودها في ميناء “عصب” الإريتري، وفي العام نفسه نصبت عدداً كبيراً من بطاريات صواريخ البعيدة والمتوسطة المدى والصواريخ المضادة للطائرات، كما نشطت في الصومال منذ عام 2011.

وبينما يتفاءل بعض المهتمين بأن الاتفاق السعودي – الإيراني سيسهم في إدارة وتسوية الصراعات في بعض مناطق الشرق الأوسط، يرجح آخرون أن عبارة “استعادة العلاقات في أسرع وقت ممكن” التي جاءت في ثنايا بيان الخارجية السودانية، وإفادة وكالة الأنباء الإيرانية “إيرنا” عن رغبة الطرفين في ذلك، بغض النظر عن الوضع السياسي، أشاعت جواً من الخوف من أن نشاط طهران الدبلوماسي في بلدان النزاعات يحمل ملامح دعم عسكري مباشر أو غير مباشر من طريق وكلائها الإقليميين، بحيث لا يقتصر على السودان وحده وإنما يمكن أن يمتد إلى دول القارة الأفريقية التي تشهد وجوداً إيرانياً أيضاً وتعمل على تنشيطه.

وفي أكثر من مناسبة، كان البشير يؤكد دعمه للبرنامج النووي الإيراني، وفي لقائه مع المرشد الأعلى علي خامنئي عام 2006، أخبره المرشد بأن إيران “مستعدة لنقل خبرة وتكنولوجيا ومعرفة علمائها [النوويين] إلى دول صديقة أخرى”، كما ظل البشير يردد دعمه لحق إيران في تخصيب اليورانيوم في الأعوام التالية.

وأكد المرشد للبشير عند زيارته إلى طهران في يونيو 2011 بأن الانتفاضات الشعبية الأخيرة في المنطقة تشكل بداية تطور أساسي في الدول الإسلامية والمنطقة، وعبر عن أمله في “تشكيل ائتلاف إسلامي قوي في شمال أفريقيا بالمستقبل القريب”، وواصفاً أحداث “الربيع العربي” بأنها صحوة إسلامية، معبراً عن ارتياحه لحدوثها، ويعيدنا هذا الوصف إلى فكرة حسن الترابي في تأسيسه “الجبهة الإسلامية القومية” قبل تنفيذ انقلاب البشير كفكرة واسعة تشمل كل التنظيمات الإسلامية في المنطقة.

وبعد تعيين حسين أمير عبداللهيان الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرس الثوري الإيراني وزيراً للخارجية الإيرانية خلفاً لمحمد جواد ظريف في حكومة حسن روحاني السابقة، قال “في الحكومة الإيرانية الجديدة سنكرس كل قدراتنا لتعميق التعاون مع الدول الأفريقية”، ومن هنا يمكن النظر إلى العلاقات السودانية – الإيرانية من بوابة أفريقيا، وهذا لا يعني أنها ستكون هامشية ولكنها ستكون مكملة لجهود إيران الأخرى في القارة السمراء.

في العقد الماضي بدأت إيران الاستفادة من الشراكات الاقتصادية مع الدول الأفريقية وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، ودول غرب أفريقيا الغنية بالموارد الطبيعية، لتكون مدخلاً لتنظيم الاتفاقات الأمنية والسياسية، فتنمو اتفاقيات التجارة والاستثمار وتعقبها العلاقات السياسية والتحالفات الأمنية ودعم برنامجها النووي من دون معوقات.

وكان السودان قبل انتفاضة ديسمبر (كانون الأول) 2018، وفي ظل النظام السابق، مؤهلاً لتنفيذ الاستراتيجية الإيرانية، وفي ظل الحكومة الانتقالية لم يكن باستطاعة الخرطوم مخالفة التوجس الإقليمي من طهران وعبور جسر العلاقات الإيرانية المتوترة مع دول المنطقة، إضافة إلى أن إيران لم تكن متحمسة للحكومة الانتقالية، إذ لم يكن بالإمكان وضوح موقفها في ظل الانقسامات السياسية، بأن أياً من المكونين المدني أم العسكري هو المناسب للتحالف معها.

وبالنظر إلى أن إيران تمتلك علاقات وثيقة مع دول القرن الأفريقي، وفي طريقها إلى إعادة العلاقات مع مصر، فإن السودان لن يكون له النفوذ الذي كان يوفره لها خلال النظام السابق، إذ إن حلف البشير كان مفتوحاً باستعداده لمعاداة الكل من أجل أن يحصل على الحماية ويستمر في الحكم، إضافة إلى ذلك، فإن تميز موقع السودان يكمن في أنه دولة معبر بين الدول العربية والأفريقية، وبين أفريقيا شمال وجنوب الصحراء ما من شأنه الإسهام في توسيع نفوذ إيران في أفريقيا.

وكان النفوذ الإيراني خلال العقدين الماضيين يستند إلى الدعم الاقتصادي والطاقة للحصول على ما يدعم مواقف طهران السياسية أو سياستها التوسعية، ولكن تغير الوضع الآن بأن أثرت العقوبات الأميركية في الاقتصاد الإيراني وارتفاع نسبة التضخم، وتكمن محاولاتها الدبلوماسية الحالية في كسب الدعم الدولي والإقليمي خصوصاً من الدول الكبرى في المنطقة مثل السعودية لحل أزمة الاتفاق النووي بالضغط في اتجاه تنفيذ شروطها برفع العقوبات، مما يعني أن السياسة الخارجية الفعالة هي التي أصبحت في خدمة وضعها الاقتصادي وليس العكس.

وما يدعم فرضية عدم مركزية السودان بحكومته الحالية في السياسة الخارجية الإيرانية هو ما يتردد من وراء الكواليس بأن طهران بصدد رفع دعوى قضائية ضد السودان في شأن العقود العسكرية التي وقعت عام 2008، أما واشنطن فهي في الاتجاه الآخر تحث على وقف أي دعم عسكري يغذي استمرار الحرب، آخذة في الاعتبار الدعم الذي تقدمه قوات “فاغنر” إلى قوات الدعم السريع، وزيارة نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني مالك عقار إلى موسكو وحصوله على تعهد من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في شأن “استعداد روسيا لدعم الشعب السوداني متى ما طلب منهم ذلك”.

وفي كلتا الحالتين فإن لدى طهران فرصة لصياغة سياسات وأولويات إقليمية، لكن بالنسبة إلى السودان فيبدو الوضع قابلاً للتنفيذ عبر أكثر من مسار، الأول من خلال فهم العناصر التي دعت إلى اشتعال الحرب الحالية وأن تصطف إيران إلى جانب الدول الإقليمية في جهود المبادرات الداعية لوقف إطلاق النار، وأياً كانت الحكومة المقبلة تكون حليفتها، أما المسار الثاني بأن تواصل اتباع نهجها العسكري تجاه بعض الأزمات في المنطقة، لحماية تحالفها مع النظام السابق، ولكن ذلك في حال تأكدت مما يتردد بأن أعضاء في النظام السابق من الإسلاميين يؤثرون في مسار الحرب الحالية من خلال خلايا في الجيش السوداني.

منى عبدالفتاح – “اندبندنت عربية”


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى