السياسة السودانية

عادل عسوم: رؤية تأصيلية لدور رعاية فاقدي السند (دور الأيتام)

[ad_1]

في البدء، أرى التنبيه بأن اتفاق الفقهاء على عدم اندراج الطفل اللقيط ومجهول الأب تحت مسمى اليتيم؛ لايعني أنه لاتنطبق عليه الكثير من الأحكام والتوصيات الخاصة به، بل أجمعوا بكونهم أشد حاجة للعناية والرعاية من (الأيتام) معروفي النسب، إذ لا أبوين، ولاقريب يلجؤون إليه عند الحوجة، لذلك أجمعوا دون خلاف بأن الذي يكفل طفلا لقيطا أو مجهول نسب يدخل في الأجر المترتب على كفالة اليتيم لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (أَنَا وَكَافِلُ الْيَتِيمِ فِي الْجَنَّةِ هَكَذَا وَأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى وَفَرَّجَ بَيْنَهُمَا شَيْئًا)، لكنهم أبانوا بأن مَن كفل مثل هؤلاء الأطفال أن لا ينسبهم إليه؛ لما يترتب على ذلك من ضياع للنسب والحقوق، وللنأي عن ارتكاب ما حرَّم الله، وأن يعرف من يكفلهم أنهم بعد أن يبلغوا سن الرشد فإنهم أجانب منه كبقية الناس، لا يحل الخلوة بهم أو نظر المرأة للرجل أو الرجل للمرأة منهم، إلا إن وجد رضاع محرم للمكفول فإنه يكون محرماً لمن أرضعته ولبناتها وأخواتها ونحو ذلك مما يحرم بالنسب.
هذا هو الراجح عند فقهاء المسلمين، ولا اعتداد ببعض الرؤى الفقهية التي تصل حد تجريم من لاذنب لهم من هؤلاء الأطفال الضعاف المساكين.
وللأسف فإن جل دول العالم العربي والاسلامي -إن لم يكن كلها- تنشئ دورا لرعاية هؤلاء اللقطاء وفاقدي الأبوين، تجمعهم فيها لتهيأهم للانخراط في الحياة العامة بعد بلوغهم العمر المتعارف عليه قانونا، وخلال ذلك لعلنا نعلم الكثير مما يحدث لهم من استغلال جنسي وتجاري والقصص في ذلك عديدة. دعك عن قصص الحروب القديمة والحديثة التي تتحدث عن وحشية لبعض الجنود تتعدى حدود المتخيل من وحشية البشر!، وقد تبين بأن أساسها جنود تم جلبهم من ملاجيء للأطفال، والتأريخ يذكر اسماء حضارات ودول ورؤساء علم عنهم أنهم جمعوا هؤلاء الأطفال في دور خاصة وسعوا إلى تربيتهم على الحقد والسادية، ثم تم تدريبهم عسكريا واستخدموهم في حروب ومذابح كان آخرها مذبحة سيربرنيتسا الفظيعة في البوسنة والهرسك، وفي دراسة عن المجرمين في بعض السجون الاوربية، ذكر بأن نسبة الذين نشأوا في دور للأيتام من السجناء يعد النسبة العظمى منهم، وهناك تفصيل بأن طبيعة الجرائم التي يسجنون بسببها تكون دموية وقاسية!…
فاليتيم/اللقيط طفل صغير يعد (عجينة) يمكن تشكيلها كيفما يريدها الراغب.
وللعلم فإن تعداد هذه الشريحة ليس بالهين في كل دول العالم، ولعل الحروب الأخيرة زادت ومافتئت تزيد من اعدادهم، يضاف إلى ذلك الكوارث كالزلازل والبراكين والتصحر والجفاف ثم التطهير العرقي والامراض الفتاكة، إضافة إلى الفقر والعوز.
فلماذا تقام دور لهم في بلاد المسلمين تفصلهم عن (مخالطة) المجتمع والعهد بسلبيات ذلك أكثر من ايجابه؟!
قد يندهش المرء إن علم بأن العديد من ولايات امريكا منعت إقامة دور للأيتام!
لقد استبدلوا دور الرعاية هذه ب(منازل الرعاية البديلة)، والتي تتضمن تبني أسرة أمريكية لطفل يتيم…
وخلال إحدى زياراتي لمدينة إكستون في ولاية بنسلفانيا التقيت بأحد المسؤلين من أصل عربي وهو استاذ جامعي في علم النفس، التقيته في المركز الثقافي السعودي في المدينة، فسألته عن السبب في انتفاء دور للايتام في أمريكا، فقال لي بأنه سأل الداعية الاسلامي الأمريكي يوسف أستس الذي كان مبشرا وواعظا في الكنيسة قبل اسلامه، فقال بأن أمريكا استمدت ذلك من الاسلام من آية البقرة رقم 220 :
{…قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ…}
ياترى، لماذا لم ينتبه المسلمون لذلك؟!
ولنتوقف لحظة بين يدي آية سورة البقرة المذكورة أعلاه:
{…وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَىٰ ۖ قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} البقرة 220
لننتبه إلى السياق: {إصلاح لهم خير، وان تخالطوهم فاخوانكم}…
إن الله تعالى يطلب منا- بالاضافة إلى التصرف العادل في المال- أن نعوض اليتيم بالتكافل المجتمعي، والتلاقي الإيماني، والتربية التشاركية، عن مشاعر الأبوة التي فقدها بفقد والده، وذلك ينأى به عن (الحقد) على رصفائه من الأطفال الأحياء آباؤهم، ثم الحقد على المجتمع من بعد…
فالأمر ليس قاصرا على إدارة مال ليتيم أو خشية من أكل ماله، أو خلط للمال مع مال الكافل، إنما أجده -والله أعلم- أكبر من ذلك بكثير طالما الآية الكريمة تدعو الى (إصلاح) وحث على ال (اختلاط) معهم وتقريبهم ووصلهم بحراك الناس.
وللعلم فإن أمريكا قد استمدت كذلك قانون (هيئة المحلفين) في محاكمها من الاسلام، وتعود أصل فكرة “هيئة المحلفين” Jury المنتشرة في المحاكم الأمريكية إلى الإمارة الإسلامية في صقلية (٢٥٠هـ – ٤٥٠هـ) وأصلها “اللفيف” في الفقه المالكي، وهي عبارة عن هيئة مكونة من اثني عشر عضوا يشهدون أمام القاضي حول الأمور التي رأوها أو سمعوها بأنفسهم.
حري بعلماء الاسلام ومفكريه التوقف مليا بين يدي حرص الاسلام الشديد باليتيم، فالنصوص الواردة في كتاب الله تعالى كثيرة، وفيها الملفت والمدهش حقا، فقد ورد النهي عن أذيته في (عشرين آية وموضع) في كتاب الله!، وهناك عدد غير قليل من الاحاديث النبوية الشريفة عنيت باليتيم، فما الداعي إلى كل هذا الاهتمام والعناية باليتيم وكلنا نعلم بأن اليتيم قد لا يدخل في دائرة المحتاجين؟!
والمحتاج منهم عادة يكون صغير السن ويكفيه القليل من المال والمتاع لسد حاجاته؟!
انه حرص يصل بنبينا صلى الله عليه وآله وسلم بأن يساوي بينه- وهو خير خلق الله- وبين كافل اليتيم، وفي الجنة!!!
وتترى الدهشة عندما يخبرنا الله تعالى عن (من هو المكذب بالدين)؟!
هل تدرون من هو المكذب بالدين؟!
إنه ليس القاتل، ولا تارك الصلاة، ولا السارق!
إن الله تعالى يخبرنا بأن المكذب بالدين هو الذي {يَدُعُّ الْيَتِيمَ}!!!
قال لنا الله تعالى ذلك في سورة الماعون، وال(دعُّ) هو الدفع بعنف وجفوة وليس الترك، أي يقهر اليتيم ويدفعه بشدة ويظلمه.
وبذلك فإن آية سورة الماعون لاتتحدث عن حاجة مالية او متاع، انما تتحدث عن مشاعر وأحاسيس وسلوك وانتفاء لل(أنسنة) في التعامل مع اليتيم، ف(الدع)/الدفع لليتيم بعنف والتعامل معه بقسوة وشدة وجلافة واهدار حقوقه يرسخ في وجدانه ليتحول إلى عقد نفسية ومشاعر كره ونقمة على الفاعل والمجتمع بأسره عندما يكبر، والطفل الفاقد للأب بالذات يحتاج بشدة إلى الاتكاء على من يحميه ويتربى في كنفه ليتشكل وجدانه ايجابا، بخلاف آية سورة البقرة التي تتحدث في سياقها العام عن اسلوب تعامل مالي.
ولكي أختم مقالي لنقف مليا عند ختام آية سورة البقرة:
{…وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ…}
والإعنات هو أن تدفع بسواك إلى أمر فيه مشقة، ويقال للعظم المجبور إذا أصابه ألم فهاضه: قد أعنته.
(غريب القرآن لابن قتيبة).
والمعانتة كالمعاندة، لكن المعانتة أبلغ؛ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك، ولهذا يقال: عنت فلان: إذا وقع في أمر يخاف منه التلف.
ياترى ماهو الإعنات المقصود هنا؟!
اقول والله أعلم بأن العنت هنا يشير الى ال(مآلات) التي يمكن ان تحدث ويتسبب فيها اليتيم لمجتمعه ان لم يلتزم مجتمعه بالتوجيه الرباني في آية سورة البقرة:
{…قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ۖ وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ…}.
إذ ينشأ هذا اليتيم الذي تم التفريط فيه حاقدا على مجتمعه، مما يكون فيه خوف وهلاك، ولايتوقع مثل ذلك من أي شريحة اخرى في المجتمع سوى الأيتام والله أعلم.
الخلاصة:
الذي أراه أن تغلق دور رعاية الايتام أو فاقدي السند -(أيا ما كان اسمها) في السودان وفي العالم العربي والاسلامي، وأن يقتصر الأمر على (مراكز مؤقتة) لجمع واستقبال الاطفال الأيتام وتسجيلهم -مهما كان سبب اليتم- ولايتعدى مدة الحضانة للطفل فيها أشهر قليلة، تحرر خلالها شهادات ميلاد للطفل باسم أبيه -ان علم- وبإسم تقديري ان لم يعلم، ثم يسعى المركز وبدعم من الدولة وبمساعدة الجمعيات ومنظمات المجتمع ذات الصلة إلى حث ودفع الأسر إلى كفالة الطفل باستصحاب الشروط والموجهات الاسلامية الشرعية المعروفة للكفالة،
والله ولي التوفيق.

عادل عسوم

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى