حول الرِّق.. ماضيه ومآثره (1 من 19)
[ad_1]
الدكتور عمر مصطفى شركيان
توطئة
في مخاطبته لمجموعة من أساتذة المدارس العام 1963م شرح الروائي الأمريكي العظيم من أصول إفريقيَّة جيمس بلدوين (1924-1987م) رؤيته عن التاريخ الأمريكي، وكيفيَّة تدريسه، أو كيف ينبغي تدريسه. إذ قال – فيما قال: “إنَّ التاريخ الأمريكي لطويل وضخم، وأكثر تعدُّداً، وجميل جداً، وأكثر فظاعة مما لم يقله عنه أحدٌ من قبل أبداً.” واستطرد بلدوين قائلاً: “حينما ندرِّس الأطفال الأمريكيين القصة الحقيقيَّة عما فعلت أمريكا ضد سكانها السُّود فمن هنا نكون ليس قد حرَّرنا الزُّنوج فحسب، ولكن السكان البيض كذلك، وهم أولئك الذين لا يعلمون عن تاريخهم شيئاً.” وفي العام 2019م قامت مجموعة من المؤرِّخين والصحافيين بتأسيس مشروع العام 1619 بمناسبة مرور 400 عاماً على وصول أوَّل فوج من الأرقاء الأفارقة إلى أمريكا الشمالية. كان هذا المشروع يهدف – فيما يهدف – إلى تنقية تاريخ أمريكا عن طريق وضع آثار الرِّق ومساهمات الأمريكان السُّود في مركز الدائرة القوميَّة في البلاد. وبعدئذٍ حقَّق المشروع إيَّاه نجاحاً باهراً، ونال جائزة بوليتزر، ثمَّ أصبح كتاباً مدرسيَّاً للأطفال وطلاب المدارس الثانوية. أما الجزء الأكبر من المشروع، الذي يحتوي على مقالات طويلة، وقصص الخيال والأشعار، فقد تمَّ نشره باسم “مشروع العام 1619: حكاية أصول جديدة” (The 1619 Project: A New Origin Story). الجدير بالذكر أنَّ الغرض الأساس من تضمين هذا المشروع في المقرَّرات المدرسيَّة كان هو الحراك العام تجاه تدريس المبادئ ضد العنصريَّة، ومخاطبة الآثار المتنامية من سيادة الإنسان الأبيض من خلال التربية والتعليم.
نسبة لأهميَّة قضيَّة العِرق في المجتمع الأمريكي ابتكر الأكاديمي بجامعة هارفارد ديريك بيل نظريَّة العرق الحرجة (Critical race theory) في السبعينيَّات لمخاطبة حركة العدالة العرقيَّة في التعليم. إذ يجادل هذا المذهب النظري – فيما يجادل – بأنَّ اللامساواة العرقيَّة والانحياز – عمداً أو بغير عمد – متجذِّرة في القوانين والمؤسَّسات الأمريكيَّة. إزاء ذلك نجد أنَّ أمريكا عنصريَّة في البناء السياسي لمصلحة الشعب الأبيض، وذلك برغم مما يقوله أصحاب النوايا السليمة، أو ما يعترضونه عليه من سلوك عنصري.
لا مرية في أنَّ قصة ال150 مليون إفريقي من أحفاد الذين حُمِل أجدادهم في الفلك المشحون عبر المحيط الأطلسي في ظروف مأسويَّة قاسية لم تنته بعد. إذ من العسر عسراً تجاهل ثلاثة قرون من التاريخ الكارثي، وإنَّ أنسب نقطة للبداية هي مزارع قصب السكر في الجزر الكاريبيَّة، ومن شدَّة وحشيَّة الحياة في تلك المزارع لم يجرؤ صناع الأفلام في هوليوود على أفلمتها؛ إذ كان متوسط معدَّل الحياة بالنسبة للعبد ثمان سنوات.
بيد أنَّ أهم كتاب نُشر في القرن التاسع عشر، والذي ربما قد تقرأه القلَّة القليلة حاليَّاً، هو “كوخ العم توم” (Uncle Tom’s Cabin)، أو “حياة التواضع” (Life Among the Lowly). فالكتاب الأوَّل، الذي نشرته هارييت ستاو العام 1852م، يعتبر بحثاً روائيَّاً عن مجتمع الرِّق في الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، وكان فلاديمير لينين يقرأ هذا الكتاب مرة كل عام، ثمَّ إنَّه هو ذلكم الكتاب الذي حقَّق مبيعات أكثر من أي كتاب آخر باستثناء الكتاب المقدَّس (الإنجيل) في القرن التاسع عشر الميلادي، وقد أقرَّ الرئيس الأمريكي الأسبق إبراهام لينكولن أنَّ هارييت ستاو قد لامست بكتابها الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة (1861-1865م). وبعد قرن من نشر الكتاب إيَّاه ظلَّت أيَّة أسرة سوداء في أمريكا والجزر الكاريبيَّة تحتفظ بنسخة منه. ففي الكتاب ظلَّ بطل الرواية – أو الشخصيَّة المحوريَّة – العم توم يتعرَّض للضرب المبرح حتى الموت، لأنَّه رفض أن يجلد رفيقه العبد، أو أن يفشي بمكان اختباء اثنين من العبيد الأبَّاق، أي الهاربين. غير أنَّ الملايين الذين باتوا ينتظرون يوم العتق (Emancipation Day) في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1863م طفقوا يستظهرون المتمرِّد توم بأنَّه خائن خنوع دون أن يستدركوا أنَّ قضيَّة السُّود في مقاومتهم للاضطهاد لا بد أنَّها قد تمَّ تزويرها، أو التلاعب بها، مخافة من أن يتَّخذ السُّود الأفكار العظيمة في كيفيَّة تحدِّي سلطة الإنسان الأبيض.
إبَّان الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة استطاع بعض العبدان الهروب من الولايات الجنوبيَّة، التي استمسكت بالعبيد ورفضت تحريرهم، إلى الولايات الشماليَّة، التي رأى سكانها اللبراليُّون بضرورة تحرير الرِّق. هذا فقد احتار سكان الولايات الشماليَّة في تسمية العبيد الأبَّاق الذين فروا إليهم من الجنوب، فلتجدنَّهم قد نعتوهم بصفات – على سبيل المثال – “بضاعة مهرَّبة أثناء الحرب”، واستخدموا الإطناب في وصفهم ب”الشعب الملوَّن”، أو “الأشخاص خارج القضاء من أصول إفريقيَّة”، أو “الزِّنجي العلمي”، أو “العبد الحقير”. الجدير بالذكر أنَّ الظروف التي أدَّت إلى الهرولة نحو الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة العام 1861م هي أنَّ الشمال والجنوب كان كيانين مميَّزين في الإثنيَّة والعادات والقانون. ففي واقع الأمر كان اقتصاد الشمال يعتمد على العمالة الحرَّة، وكان معرَّضاً للكساد والصدمات الماليَّة. أما اقتصاد الجنوب – من جانب آخر – فكان يعتمد على الرَّقيق، غنيَّاً كان ثمَّ أكثر استقراراً. فقد انفصلت الولايات الثلاث عشرة الجنوبيَّة لأنَّها كانت تحظى بحكومة محليَّة والجيش والمؤسَّسات العدليَّة في القضاء والشرطة وغيرهما.
وللمقال بقيَّة،،،
المصدر