السياسة السودانية

التعافي: اختراق المستحيل ملامسة فوق الإنساني

[ad_1]

المحبوب عبد السلام

“أنا لم أقتل يهودياً، وإن كنت ولدت من أبوين ألمانيين، هذا ليس خطأي كما لا فضل لي فيه.. أنا برئ تماماً من جرائم النازية لكنى لا أجد عزاءً في ذلك، ضميري ليس مرتاحاً وأشعر بمزيج من الخجل والحزن وقلة التصديق والتمرد”.

هكذا كتب شاب ألماني عام ١٩٨٠ إلى فيلسوف استحالة الصفح وما لا يتقادم الفرنسي فلاديمير جانكليفتش الذي رد بدوره: “السيد العزيز، تأثرت كثيراً لرسالتك. انتظرت هذه الرسالة طيلة خمسة وعشرين عاماً، أعنى رسالة تتحمل تماماً مسؤولية الرجس ومن شخص لا يد له فيها، إنها المرة الأولى التي أتوصل فيها برسالة من ألماني”.
وإذ يعود جذر مترادفات العفو والصفح في اللغات الأوربية كافة إلى الأصل (Pardon) رغم الشك في نسبه اللاتيني الخالص، فإن اللغة العربية تحفل بالكلمات التي تفيد العفو والصفح والمغفرة والتوبة والصلح والإصلاح والمسامحة دون أن تترادف لتؤدي ذات المعنى ولكنها تتواشج سيمائياً لتعطى مفهوماً يصلها مباشرة بالأصل اللاتيني (Pardon)، كما يصلها بجوهر الجدل الدائر منذ ستينات القرن الماضي حول العفو والتعافي والصفح، فاللفظ الأوروبي يشير مباشرة إلى معنى الهبة والمنح، كما تفيد كلمة العفو ذات المضمون الذى يشير إلى العطاء والهدية أو الإنفاق والمنحة. وإذ يسمى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ذلك المفهوم اقتصاديات العفو تفصح الآية القرآنية عن ذات المعنى ﴿وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ﴾.
كذلك تحفظ سياقات القرآن ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٞ﴾. فالعفو يأتي عقبه وتالياً له الغفران؛ لأن العفو بمعنى الترك مطلقاً، يحتاج لأساس فكري وفلسفي متين يقوم عليه الغفران بمعنى دفن الحق والتنازل عنه مطلقاً أو دفن السيئة ومسامحتها مطلقاً، فالعفو هو القاعدة الفكرية التي يأتي بعدها الصفح الماسح ويعود القلب والوجه صفحة بيضاء، أو العرف المعروف أو الإصلاح كما هي في سياقات القرآن كذلك: ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾، و﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، و﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾، كما إن الصفح يكون جميلاً انجملت عناصره كمالاً فلم يفرط منها شيء.

ربما قبل أن تكتشف الإنسانية مفهوم الإنسانية، جاء التجلي الأول مع مفهوم الخلاص المسيحي. إذ أن التضحية والفداء اللتان بذلهما المسيح الناصري كانتا لجملة الإنسانية، قبل أن يعلن القرآن أن النبي محمد مبعوث للناس كافة. لكن مع صدمة الحربين الأوروبيتين الموسوميتن بالعالمية، لا سيما الحرب الثانية، وتحديداً لمنتصف العقد السادس من القرن العشرين، ليظهر لأول مرة في القانون الجنائي مفهوم ونصوص الجريمة ضد الإنسانية، ظل المفهوم يتبلور مع صيرورة تاريخ التقدم البشري دون أن ينسخ الأصول المتوحشة للبربرية في عمق الخلية النفسية والفكرية للإنسان. فإذ سأل أعظم عقل في العلوم المحضة ألبرت أينشتاين السؤال الجوهري: كيف يمكن للحروب أن تقف، وما الذي ينبغي فعله لكي نمنعها؟ ليجيب العقل الأول في العلوم الإنسانية سيغموند فرويد، مخترع التحليل النفسي: “إن أصول التوحش وكراهية الآخر في أصل الغريزة البشرية، وإن الجوهر العميق للطبيعة الإنسانية يقوم على الغرائز الأولية رغم أن هذه الإجابة تحتوي على الأطروحة التي يفترض أننا نخالفها…تمر هذه الغرائز البدائية بعملية نمو طويلة… فهو تقمع وتوجه نحو أهداف أخرى … ويضيف التحليل النفسي أن الأحاسيس المتصارعة كثيراً ما تتخذ من الشخص نفسه موضوعها… إذن فالحرب التي رفضنا أن نصدقها قد اندلعت وجلبت معها التحرر من الوهم، وهى ليست فقط أشد هدراً للدماء واشد تدميراً من الحروب الماضية بسبب الكمال المتزايد لأسلحة الهجوم والدفاع، ولكنها على الأقل من الدرجة نفسها من القسوة والمرارة والعناد مثل أية حرب سبقتها، إنها تستخف بكل القيود التي تعرف باسم القانون الدولي والتي التزمت الدول أن تراعيها في زمن السلم، وهى تتجاهل حقوق الجرحى والهيئات الطبية وتتجاهل التمييز بين القطاعات المدنية والعسكرية من السكان وحقوق الملكية الخاصة وتدوس تحت أقدامها في غضب أعمى كل من يصادفها في طريقها” وقد نحتاج أن نذكر أن سيغموند فرويد كان يتحدث عن الحرب العالمية الثانية التي لامست قبلها أوروبا ذروة الحضارة أو المدنية، كما يفضل البعض، وارتادت آفاق القرن العشرين.

لكن في ذات اللحظة التي بدأت أوروبا تتداول وتدير حواراً موسعاً وعميقاً حول الجرائم الموجهة للإنسانية بوصفها إنسانية، الجرائم التي تستهدف الإنسان من حيث هو مهما تصوبت لأعيان منهم أو أقوام، وتحديداً جريمة المحرقة الهتلرية التي استهدفت اليهود واعتبرت وجود اليهودي مهما يكن خطأً وجريمة، في ذات تلك اللحظة اشترع الفلاسفة الأوروبيون والمفكرون حواراً أعمق حول العفو والصفح وما يقابله ما لا يقبل الصفح ولا يسقط بالتقادم، الصفح والعفو الذي يجعل استمرار التاريخ ممكناً وما لا يقبل الصفح لأن أعداداً غفيرة من الضحايا والمجني عليهم قد عبروا إلى الموت ولن يعودوا، ومن يملك حق الصفح عنهم وكيف؟ كما إن كثير من الجناة غير معروفين ولم تسجل جرائمهم عليهم، وكثير منهم كذلك لم يطلب الصفح ولم يسعى إليه بأيمّا صورة من الصور، ثم هل أبدى أيّاً من أولئك الألمان ندماً وهو يمشي في الأرض مطمئناً بجسم صحي ووجه ناعم ورفاه كامل بفضل المعجزة الاقتصادية؟ كما إن الصفح والعفو والمغفرة والتسامح والتعافي يحتوي بالضرورة مفهوم الهبة والمنحة، بل إن كلمة (Pardon) الأوروبية الفريدة لا تكون إلا في صيغة الطلب، ولا يوجد منها مصدراً كما في الألفاظ العربية المضطردة التي أيضاً تعتورها فكرة المقابلة بين طرفين يتصافحان بالأيدي أو يتعافيان بصفحة الوجه. ووفقاً للفهم الذي يصبغ الفكر الأوروبي من فكرة الاعتراف التي تكون بين المؤمن والكاهن، أو القس كما هي فكرة طلب العفو والصفح التي تكون خاصةً وسريةً وبين اثنين. أضاف الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك إلى الذين يتبنون استراتيجية استحالة الصفح وما لا يسقط بالتقادم، وهو يتحدث في ذكرى المحرقة استحالة أخرى وهو يعتذر عن ترحيل الحكومة الفرنسية لآلاف اليهود إبان الاحتلال النازي: “إن ذلك ضرراً لا يمكن جبره” بمعنى أن المنحة مهما بلغت ملئ الأرض ذهباً أو استطالت اعتذاراتها الرسمية، لن تجبر ذلك الضرر العميق ولن تردمه وهي تدخل ضمن ولا يمكن التكفير عنها كما ورد في ذات الخطاب.

ورغم أن جاك دريدا يدرج الاعتذارات الرسمية ضمن تاريخ الكذب في كتابه “تاريخ الكذب”، فهو يتبنى بوضوح أن الصفح لازم لاستمرار التاريخ بمعنى استمرار الحياة، كما يقر أيضاً أن الصفح والعفو لا يكونا إلا بتجاوز العمق السيميائي في اللغة لمفهوم الهبة والمنحة ليكون مطلقاً ولا طبيعياً ولا تطبيعياً وخارقاً دائماً وفى ملامسة مستمرة للمستحيل، كما يؤكد أن الصفح ينبغي ألا يكون غائياً مهما تكن الغاية نبيلة أو دينية أو من أجل الخلاص أو إعتاق أو مصالحة فإنه يعود ليستعيد الوضع الطبيعي. ورغم نفي الدينية عن أن تكون غايةً للصفح والعفو فإن المُنّظِر الآخر الأشهر فيلسوف للعفو والصفح بوصفه أخلاقاً إتيقياً ايمانويل ليفانس يؤكد على الجذر الديني للفكرة، والدين باعتباره ملهماً لها حتى عند الذين لا يؤمنون به، فإذ تصبح عملية الصفح لا غائية تكون أخلاقية بامتياز لتجذير الخير في الحياة ولكبح الشر، فالغائية المطلقة التي تتغيا المطلق تتطابق مع العمق الصوفي لأديان التوحيد، كما تظهر بوضوح في تعاليم غير أديان التوحيد، بل وفى الأخلاق العلمانية. لكن المتدينين والمتصوفة على وجه الأخص يبتغون وجه الله بوصفه منتهى الكمال والجمال، ويمحضون عبادتهم له مخلصين ومتجردين حتى عن موعد الجنة الكتابية التي تشير في كثير من نصوصها إلى المتعة الحسية. كما إنهم لا يخشون عذاب النار في الآخرة الذي يتكثف ذكره في الكتاب الأخير بشدة. فقبل الأخلاق الكانطية المؤسسة على محض العقل فإن تعاليم الأديان وأخلاقها عرفت معاني المغفرة والتوبة والندم والمعروف والعفو والصفح. ويقدم القرآن مثالاً ملفتاً لقصة ابنيْ آدم ويجعلهما عامين لأيّما ابنيْ آدم ولا يتابع الكتاب المقدس الذي يشير إليهما باعتبارهما هابيل الصالح وقابيل الطالح أبناء النبي الأول، آدم، فقد تنازل أحدهما حتى عن حق الدفاع النفس الذي تقره الشرائع كافة ﴿۞ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)﴾

التعافي

وإذ يكون التكفير والعفو سرياً وبين اثنين، يقتضي التعافي مخاطبة كتل والسعي لجمعها على مبادئ الحرية والعلم الذى يرفع حجاب الجهل ليتغاضى الناس عن كل ما يميزهم على اساس الثروة والطبقة او النوع ولتنتحي جانبا الامتيازات كافه ليعود المجتمع الى الاصل الواحد الذي يقوم على اساس المساواة، ويسمح للجميع بتداول المعلومات ويهيئهم لقبول عقد اجتماعي عادل ومنصف، كما يقول جون رولز فى نظريته “العدالة كإنصاف”، وإذ يقتضى الصفح المقابلة صفحاً تتصافح فيه الأيدي والوجوه وخاصةً الوجوه، كما يؤكد ليفانس، لأنها مناط الكرامة وموضع تجلي الله، المعنى ذاته الذي صبغه المسلمون على الصحابي علي بن أبي طالب ووصفه خاصة بـ “كرم الله وجهه”، محتفلين أنه لم يسجد لصنم رغم عمره في الجاهلية، فإن التعافي لا يقتضي فقط ملامسة المستحيل والتجاوز لما هو فوق إنساني، بل يتطلب تشخيص دقيق ومعقد للمرض الذي يحتاج لحملة تطعيم شعبية وتداوي مستدام نحو تمام العدالة الموسومة بالإنصاف، وإذ يكون الصفح أحياناً عابراً وفى أحيان أخرى عميقاً وجذرياً، فإن التعافي لا يكون إلا عميقاً وجذرياً، وكما يتجاوز الصفح والعفو ويضاد أحياناً كثيرة منطق القانون الجنائي، وحيث يكون لا تشريعياً ولا يخضع لمنطق المنحة والهبة ولا يتقصد غايةً دون الإطلاق وفتح السبيل أمام المستقبل، فإن التعافي يعني مجموع الإرادات المفردة لتشكيل دفعة هائلة نحو تبديل مجتمعات هي بطبيعة الحال متعددة عدد الشعوب والأقوام والثقافات كما في درجات حضارية متباينة تصعد نحو منتهى مدنية القرن العشرين وتهبط لمجتمعات ما تزال قبل سياسية قبلية أو عشائرية أو بدائية.

لكن تلك المجتمعات المتباينة على نحو كبير قد ترتد جميعها لتستدعي الغرائز الأولى التي تنشد موت الآخر وإبادته. كما تحدد مدرسة التحليل النفسي الفرويدية بحسم، كما حدث لمدنية القرن العشرين في الحرب الأوروبية الثانية، وكما ظل يحدث في الحروب الأهلية الأفريقية، وكما استمر يحدث لمدى قرنين في جنوب أفريقيا هي عمر الميز العنصري وكما يحدث اليوم في غزة. فإن فيلسوف العفو والصفح دريدا يقرر في حالة نادرة يجازف فيها بالتقرير: “إن كل المآسي التي أحاطت بالإنسانية مردها إلى نقض العهود والمواثيق وكل مأساة يقف وراءها غدر بعهد ما، فإن التعافي يستدعي، بعد التشخيص الدقيق لأصل الأزمة، الاتفاق على عهد دستوري يطابق تمام العدالة ويتجلى فيه كمال الإنصاف، وهذه العملية المزدوجة المعقدة للتعافي بدورها تستدعي حشداً للطاقات الفكرية تصطف كالبنيان المرصوص وتنافي مطلقاً الاستقطاب في المحاور الأيدلوجية أو العصبيات قبل السياسية. ولقد استبدت أوروبا، ولكن استبدت بقوتها كما يقول مالك بن نبي، ولكنها سخرت نفس تلك القوة لفحص أزماتها والاعتبار بأخطائها. وكما ورط السياسيون والعسكريون أممها في تلك الأزمات والحروب، نهض مفكروها لتشخيص الأدواء ووصف الدواء متضامنين كل في مجال تخصصه.

لقد شاعت الثقافة الديمقراطية وما تزال تشيع وتبلور في الطريق إلى التعافي مفهوم العدالة الانتقالية، وأثار ذات الخلاف والنقاش الذي ظل يثيره مفهوم العفو، والصفح، وجبر الضرر، وما لا يسقط بالتقادم، وبرز بالطبع سؤال ما دامت العدالة مبدأً وليست قيمةً فقط فكيف يسِمَها الانتقال وكيف تكون انتقالية؟ وإذ شاعت الثقافة الديمقراطية تعددت تجارب العدالة الانتقالية بين الشعوب المنكوبة، ووجدت في ثقافات الشعوب مدداً من الحكمة والحلم وحب الآخرين ما وجدت في الدين محفزاً للتعافي. ومن بين ٤٠ تجربة ومحاولة للعدالة، تميزت في أفريقيا تجربة جنوب أفريقيا بقرار من رئيس البلاد يومئذٍ من القائد نيلسون مانديلا وتعيين القس ديزموند توتو العالم الكبير، والحائز على جائزة نوبل للسلام رئيساً للجنة الحقيقة والمصالحة. حشد القس المبتسم سليل الترانسفال كله كارزماه القيادية وإشعاعه الروحي ليقود الجناة إلى الاعتراف، والضحايا للقبول والرضى، وذلك بعد البدء بجمع الأدلة ودعوة المطلوبين للمثول. لقد كانت تجربة ملهمة للكثيرين ولتجارب أخرى في العدالة الانتقالية، ولا ريب أن توتو كان يستلهم ثقافته الجنوب أفريقية وفكره المسيحي المتقدم. ورغم أن جوهر المسيحية هو الحب لوجه الله والعفو والصفح فإن الإسلام رغم إعلائه رايات الجهاد في سنته وعبر تاريخه، فإن القرآن ومن داخل سياق الاجتماع قد جعل العدالة في العفو والصفح تجاه أخطر الجرائم المعروفة باسم الحرابة، وسمح بمسامحة الجناة عندما تغدو جريمة ذات أبعاد سياسية ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ۖ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾، بل نبي الإسلام قد طبق أول عفو سياسي شامل في عبارته التي خلدها التاريخ الإسلامي: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، كما يقول المفكر التونسي فتحي المسكيني، وهو عفو سياسي كما يؤكد ذات الكاتب مستشهداً ب حنا أرندت: “لولا التزامنا بالوفاء بالعهود، لكنا عاجزين عن الحفاظ على هويتنا… تحتاج كل هوية الى نوع من التصالح مع نفسها حتى تستمر، لكن ذلك لا يتم دون بلورة نوع من المستقبل المناسب، المستقبل كشكل من الوعد، ولن يتحقق ذلك الوعد دون آخرين يأتون في أفقنا من أجل مساعدتنا على احتمال الريبة من أنفسنا القديمة” كما تؤكد أرندت على ما تسميه بعبارة رشيقة “ملكة الصفح” وتوضح أرندت “لا يمكن تصور أي نوع من العمل المدني الذي يخلق الجماعة الحرة دون ملكة الصفح”.

منذ العقد الخامس من القرن الماضي، تورط السودان في الحرب الأهلية بين الدولة والجماعات المتمردة. ولا ريب أن الدولة كانت تستدعي تراثاً من ثقافة الثأر يتجلى كلما تصدت بقوتها الصلبة للمقاومة المسلحة. الثأر الذي يجسده شعر الحماسة وشدوه الذي يمجد الحرب الأهلية بين المكونات قبل السياسية، والذي ما نزال نستدعيه باسم التراث بعد أن تجرد لحد كبير من محموله الثأري. وظلت أي محاولة لمواجهة أنفسنا بحقيقة ما حدث تقابل باستنكار يستبطن أن في ذلك تهديداً لهويتنا، أو كما تجلى منذ تقرير أحداث توريت ١٩٥٥، وإلى الردود الكثيفة على محاولة أستاذين جامعيين في رصد وتسجيل وقائع مذبحة الضعين في مارس ١٩٨٦، ثم ازورار النظام المنتخب ديمقراطياً نفسه عن التحقيق في الأحداث المرعبة التي وثقا لها – وكما ظل يحدث في جبال النوبة، وفي دارفور، وفي شرق السودان. الحرب الراهنة توشك أن تكون اختباراً شاملاً يستدعي مجهوداً شاملاً أشمل من الطاقات التي أهلكتها الحرب، والأرواح العزيزة التي ازهقتها. إن شعبنا يحتاج أن ينتصب لمحاسبة نفسه – باسم نوع جديد من العدالة – يقاضي من أساءوا إلى الشخص الإنسان بما هو كذلك، فلم تنص اي وثيقة سودانية في الماضي على الحقيقة والمصالحة باستثناء وثيقة ناكورو التي تقدم بها وسطاء الايقاد الى الحركة الشعبية لتحرير السودان وحزب المؤتمر الوطني الحاكم 2003 التي انكرت من المؤتمر الوطني ولم تر النور مطلقاً. في نمط أفقي لا يشبه الحساب الديني العمودي المتنزل من علٍ الذى يملك فيه الله وحده أن يغفر لعباده أو يعذبهم، فآداب الصفح أفقية تماماً، تكون بين بشر متساويين، وفقاً لما أسمته حنا أرندت “استحالة الرجوع إلى الوراء”، أو ما يجعل الحاجة إلى ثقافة العفو مطلباً مدنياً للعيش معاً في دولة واحدة أو دولتين قابلتين للحياة، كما كان الأمل بين يدىّ استقلال الجنوب، أو بين أعضاء شعب يؤلف جماعة روحية لا خارج لها.

تحفظ الثقافة العربية، ويسودها في أدبها المعاصر واليومي، حكمة الشاعر الجاهلي أو بيته المأثور “وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد”. والحق أن ذات قصيدة دريد بن الصمة تحمل البيت الأشهر “بذلت لهم نصحى بمنعرج اللوى فلن يستبينوا النصح إلا ضحى الغد”، فقد أمعن الشاعر الحربي في نهي فرسان قومه عن خوض المعركة الخاسرة، ولكنهم خالفوا نصحه وقد أعمتهم الغنيمة عن عواقبها، وقد كان شاعراً حربياً شأن عنترة وأمرؤ القيس ولم يكن شاعر حكمة شأن زهير:
وَمَا الْحَرْبُ إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُم وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ

مَتى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوها ذَميمَةٌ وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ
لكن العقل المعاصر يحتفل بالذاكرة ويرفض أن تنسخ عبرتها أو تهمل موعظتها مهما يكن العقل الجاهلي والنظام المعرفي قبل القرن أوسطي الذي ما يزال يحتوي طبقات من مجتمعنا ونخبه المختلفة. وأن تكون حربنا التي شهدها القرن الحادي والعشرون مثل حرب ميلان كونديرا التي دارت بين أقوام بدائية في غابة أفريقية ومات عندها الآلاف قبل مائة عام ثم طواها النسيان، مثل شجرة الفلسفة الإغريقية التي سقطت في غابة كثيفة ولم تدخل أيما وعي أو مثل جرس الفلسفة المعاصرة الذي توالى رنينه ولكن لم يسمعه أحد، بل حرب ينبغي أن تبقى ذاكرتها حيّة وقد طواها الصفح والعفو في مجتمع مدني عادل ارتفع عنه حجاب الجهل.

[ad_2]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى