السياسة السودانية

(يا خرطوم المني الصلبك واغتصبك)… انا مازوم مازوم مازوم

على هذا الحال غادرنا الخرطوم الحبيبة بعد زهاء الخمسين يوما من الحرب، خرجت تملؤني الحسرة على بلاد (لا توفر للمساء قصيدة ابدا ، ولاترعى سنابل) ، كنت ازجر عن ذاكرتي وصية الشاعر خالد حسن وقد نصحنا قبل ان يتحول الحال الى رماد: (فلنرحل الان بعيدا ولندعها تحترق عال وسافل) لم يكن يعلم بالطبع ان الحريق سيكون هكذا .
خرجت اتوكأ على وجعي والدعامة الاوباش يجردون الخرطوم الحبيبة الحسناء من وقارها المعلوم، وينزعون ثوب سترتها ويغتصبونها فى قارعة الطريق ويستبيحون اموال واعراض اهلها الطيبين ،يلاحقني بريق ذابل فى عيون اطفالي الصغار وتستفز انسانيتي اسئلتهم المفتوحة على المجهول وانا بلا اجابة ، كنا جميعا ننتظر رحمة السماء التى تمطر ،(الحصو) و الرصاص بلا هوادة ،تحول مسكننا الى ( عشة عصفور) تتقاذفه هوج الرياح من مكان لاخر تحت الازيز والقصف، وتطارده رائحة موت تقترب مرة بعد اخرى ،لم اكن اعلم انني قطنت فى مرمى نيران تعبرني جيئة وذهابا اناء الليل واطراف النهار وفى مكان نصحوا سكانه باخلائه لزائر قادم اسمه الموت بعد ان تحولت شرفاته واسطح بناياته الى منصات (للقناصة) الاوغاد المتعطشين للدماء.
كلما هممت بالبقاء كان يقنصني كذلك احساس قاتل بالذنب الكبير حيال والدة نالت منها الامراض المزمنة ونوبات الازمة مع التصاعد الكثيف للدخان فى سماواتنا التى عهدنا صافية ومطمئنة، فى احدى المرات بحثنا لها عن ذرة اكسجين فى كل الانحاء فلم نجد بين المتاح من الغبار والدخان وروائح الجثث الملقاة على الطريق مقدار شهقة وزفير يا الهي…
فى لحظة البحث عن النفس تتقزم الازمات جميعها تطبيق بنكك المتبلد الاحساس، هذا الذى لم يكن امينا مع الناس فى لحظات الحاجة وقد استودعوه اموالهم واسباب رزقهم ، انقطاع الكهرباء والمياه وشبكات الانترنت والغاز، نعم تقطعت كل الطرق المؤدية الى الحياة وصرنا الى الموت اقرب، ولكنا وفى زحمة كل هذا كانت امي ومعهاصغيري حسام وضحايا اخرين يبحثون عن( النفس الطالع ونازل)..
كان حالي يوم غادرت بيتي مثل حميد ( مازوم مازوم مازوم) وهو يلح فى السؤال ( ياخرطوم وينك وينك، ياخرطوم شن سب وقلبك وسلبك، حلبك زنجك بجتك نوبتك عربك…) الى ان يتلوى منه المداد الما ويصيح ( انا مازوم مازوم مازوم) ويعلن بلسان حالنا جميعا ( ياخرطوم المني الصلبك)… الحمد لله الذى قبض روحه قبل ان يشهد فظائع الجنجويد التى احرقت الخرطوم واحالتها الى رماد وجعلت اعزة اهلها اذلة يعايشون النزوح واللجوء بعد ان استباحها الدعامة الذين قتلوا الابرياء ونهبوا البيوت واغتصبوا الحرائر مارسوا اي جريمة ضد الانسانية..
مازال يطاردني صوت العطبراوي فى رائعة محي الدين فارس كلما نال مني الياس ( وغدا نعود حتما نعود للقرية الخضراء للكوخ الموشح بالورود ، ونسير فوق جماجم الاسياد مرفوعي البنود
وتزغرد الجارات.. والأطفال ترقص و الصغار..والنخل و الصفصاف
والسيال زاهية الثمار..وسنابل القمح المنور في الحقول و في الديار)…
حتما نعود…
ولنا عودة مع رحلة الخروج فى الارتكازات المهينة..

محمد عبد القادر


مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى