السياسة السودانية

جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (1 من 10)

[ad_1]

 

الدكتور عمر مصطفى شركيان

[email protected]

توطئة في فلسفة التاريخ

إنَّنا نعتقد دوماً بأنَّ السبيل الأمثل للتعامل مع الحاضر وللقاء المستقبل يتطلَّب المحاولة الجادة لفهم الماضي.  إذ كان هذا هو الفهم الذي دفع الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أن ينشر كتابه “أحلام من أبي” (Dreams from My Father)، وهو في الثلاثينيَّات من عمره، وذلك لكي يتبصَّر المستقبل.  وفي الحق كان له ما ابتغى حتى أصبح رئيس أعظم دولة في العالم، وأوَّل شخص من أصول إفريقيَّة يتقلَّد هذا المنصب الرفيع الذي لم يكن يحلم به أحدٌ من أمثاله في حياته.  والحلم شعلة يقتدي بها الإنسان إلى الوصول إلى المستقبل المرتقب.  إذ أورد الفلاسفة الأغاريق (اليونانيُّون) أنَّه حين يشرع الشباب يتحدَّثون عن المستقبل فلأنَّهم يقدمون على ذلك لأنَّهم توَاقون إلى المستقبل الماثل أمامهم وهو الذي ينتظرهم، أما الكهول فإنَّهم يتحدَّثون عن الماضي لأنَّه ليس هناك ثمة مستقبلاً ينتظرهم.  هكذا هي حال الأمة العربيَّة-الإسلاميَّة، التي ما فتأت شعوبها تتحدَّث عن الماضي مكثاراً، وعن أمجادهم التليدة مراراً، ولا يأملون في المستقبل بشيء، حتى أقعدتهم هذه الحال في قاع الأمم في الحضارة الإنسانيَّة والحريَّات الأساسيَّة.  أما إذا شرعوا في الحديث عن المستقبل فلتجدنَّهم يتكلَّمون عن يوم البعث، حين يخرج النَّاس من نفض يوفضون، وعن الجنَّة والنَّار في يوم الحساب، أو الثواب والعقاب، وأهل الأعراف وما يدريك لعلَّهم نادمون، وأهل الميمنة والميسرة وما إلى ذلك.  هذا نوع من الخنوع الذاتي الذي لا يقدِّم، بل يؤخِّر لو كانوا يعلمون.  وفي سبيل الرُّقي وبلوغ مرامي الحضارة العمرانيَّة والتقدمُّ الاجتماعي فعلى الإنسان أن يتسلَّح بالإرادة لأنَّها تغلب المستحيل، حتى ولئن بلغ هذا المستحيل من الجبال طولاً.  والعاجز في التدبير يحيل الأمر على المقادير، وأيُّ حيلة للعاجز سوى الإحالة على القدر!  ولله در إمام من أئمة اللغة والأدب وأستاذ سيبويه الخليل الفراهيدي حين طفق ينشد:

وعاجز الرأي مضياعٌ لفرصته           حتى إذا فاته أمرٌ عاتب القدرا

لاحظ الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1750م) أنَّ المؤرِّخ الذي يشدُّه التاريخ إلى الماضي حتى يصبح لشدَّة إلفته له غريباً عن الحاضر ينتهي به الأمر كالرجل المسفار إلى أن يصبح غريباً عن وطنه بحكم طوال غيابه.  لذا من المهم في الأمر أن ينفتح المؤرِّخ على الحاضر والأفكار الفلسفيَّة المعاصرة كي يستطيع أن ينظر إلى الماضي بطريقة متوازنة، ويستطيع استخراج العبر التي تفيد النَّاس في الحاضر والمستقبل.  كذا وأنَّ المؤرِّخ الذي يعيش تحت وطأة الماضي دون الانفتاح على الحاضر يصاب بحالة شبيهة بالمرض، وهذه الحالة هي التي سمَّاها الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844-1900م) ب”داء التاريخ”، أي آفة العقل الذي يمنح ولاءه الكامل للماضي فيفقد قدرته على التفكير المستقل والإبداع.  إذ أنَّ الحالة التاريخيَّة متعارضة بطبيعتها مع اللحظة الابتكاريَّة، هذه تشد إلى الماضي، إلى الوراء؛ بينما الأخيرة خطوة إلى المجهول، إلى الأمام.

وقد استند المؤرِّخون الإسلامويُّون على فلسفة التاريخ في صورتها التأمليَّة على العلية، أي السبب المحرِّك للأحداث الماضية من خلال استنباط السبب أو الأسباب التي أدَّت إلى وقوع تلك الأحداث إلى علَّة واحدة هي العناية الإلهيَّة، أي صيرورة الحياة حسبما ارتضاه الرَّب، وليس للإنسان مقدرة في التحكُّم فيها، وإن استطاع ذلك فذلك لأنَّ الله سيَّره في القيام به، وليس له من إرادة من مناص.  وهم في ذلك يستوون مع من اختزل العلل الجزئيَّة للحوادث الفرديَّة والزمانيَّة والمكانيَّة إلى علَّة واحدة أو علَّتين على أكثر تقدير يفسِّر في ضوئها تاريخ العالم أو الإطار الإقليمي الذي يعيش فيه.  هكذا لجأ جورج فيلهلم فريدريش هيغل (1770-1831م) إلى تفسير تاريخ العالم بعلَّة “تعبير الرُّوح عن حريَّتها في مسار التاريخ”، ويمثل هذا المنحى الهيغلي التفسير العلماني لمنهج العناية الإليَّة عند فلاسفة المسلمين ومؤرِّخيهم.  بسبب ذيوع آرائهم العقلانيَّة، كان المعتزلة والفلاسفة يرون أنَّ العقبة الكبرى في سبيل تقدُّم المسلمين هي في النزوع إلى التقليد وإهمال حكم العقل.  أما كارل ماركس (1818-1883م) فقد عرض التاريخ خلال فلسفته “المادية-الجدليَّة” استناداً إلى العامل الاقتصادي وصراع الطبقات، وسعى آخرون إلى تفسير التاريخ بناءً على العامل الجغرافي أو القومي أو النفسي وهكذا.

في كتابه عن “صناعة التاريخ” للمؤلف ريتشارد كوهين، قال نويل مالكوم إنَّ الذين لا يعرفون التاريخ يعيشون حياة مستديمة في الحاضر، وهذا يسوِّي فهمهم كأنَّ التجارب التاريخيَّة ذات الأبعاد الثلاثة قد تمَّ اختزالها إلى بعد واحد، والأبعاد الثلاثة في التاريخ هي الماضي والحاضر والمستقبل.  ففي نهاية الأمر، الأثر هو التطفيل، أي جعل الناس بمثابة الأطفال، لأنَّ الأطفال يُقادون بسهولة، والسياسة في أسوأ مراميها تعتمد على قبول التاريخ المزيَّف دون تمحيصها.  إزاء ذلك كان جورج أورويل يرى أنَّ الطغيان الكلي، كما هي الحال في روسيا السوفييتية، عبارة عن مجتمع تمَّ استبداله بخيالات الحزب.  أما وزير الخارجيَّة الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر فقد قال في كتاب “عن الصين” إنَّ الزعيم الصيني شوين لاي تناول الديبلوماسيَّة الراهنة في ضوء المواريث الصينيَّة القديمة.  إذ “يقول كيسنجر إنَّه في دراسته لتاريخ الدول لم يجد في الدول المعاصرة زعيماً واحداً يتوسَّل لتحقيق مشروع حداثي بالرجوع إلى السنوات إلى الوراء.  هذا هو النهج الذي سلكه ماو تسي تونغ، وشوين لاي، ودينق شاو بينق.”  وإذا كان من الحظ المشاع في أن يعرف الإنسان والديه، فينبغي أن يكون الأمر مضاعفاً في حال الأمَّة أن تعرف تاريخها.

حين نستذكر الماضي وتقاليده فإنَّنا لنبتغي بذلك التقاليد الوجه الحسن من ذاك الماضي وتلك التقاليد.  والتقليد يعني ممارسة وتوريث التركة الثقافيَّة للأجيال، وبخاصة ما كان جميلاً منها.  المقلِّدون العقلانيُّون يوقِّرون الأفضل في الماضي كمرشد عقلاني لكيما يتصرَّفون في الحاضرة بحكمة وحنكة.  إذاً، يستوجب تمحيص الحنين إلى الماضي (Nostalgia) من الأخطاء، والاكتفاء بإحياء المثل الأخلاقيَّة، لأنَّ ذلك الحنين الماضوي ليس مجرَّد خيال أو تصوُّر.  إذ يجب أن يكون الطموح والتعبير عمن نحن وماذا نريد أن نكون انطلاقاً من الفضيلة.  لأنَّ الحنين إلى الماضي كما ورد في أصله الإغريقي في القرن السابع عشر مكوَّن من كلمتي (nostros) بمعنى العودة إلى الدار، و (algia) بمعنى الألم، وقد يفضي إلى تطوُّر حال هذا الحنين ويصبح حالاً مرضيَّة في نهاية الأمر.  ففي العام 1688م نشر الباحث السويسري يوهانيس هوفر بحثاً عن رجل سافر من بيرن إلى باسيل في سبيل الدراسة.  وما هي إلا لحظات بعد وصوله إلى باسيل، حتى أصابته البرداء المرعبة، والبرداء هي الحمى مع البرد، وأمره الأطباء المحلِّيون بالعودة إلى وطنه من أجل الاستشفاء.  وما أن شرع في رحلة العودة إلى داره حتى أخذ تنفُّسه يتحسَّن رويداً رويداً، وكلَّما اقترب من بيرن كلَّما أخذ يستشفى.  وما أن وصل إلى أعتاب بيته حتى شفي سقمه تماماً وكأنَّ شيئاً لم يكن.  ومن هنا تيقن هوفر بأنَّ أجسادنا تسير بواسطة الأرواح الحيَّة التي تمضي جنباً إلى جنب معنا، وحين يقلق الشخص عند بعده عن الدِّيار، تضطرب الأرواح وتكفُّ عن عملها.

وفي العام 1733م نشرت صحيفة “غازيتة بوسطن” خبراً مؤلماً عن عبدة في منطقة سالم، التي ذهبت إلى المقابر حاملة معها سكيناً، فبقرت بطنها بشدة حتى خرجت أحشاؤها.  إذ كان يعتقد كثرٌ من الأرقاء أنَّهم بعد الموت سوف يبعثون خلقاً جديداً في إفريقيا.  هكذا أرادت العبدة المنتحرة أن تعود إلى الدار الإفريقيَّة عن طريق الانتحار.

 

للمقال بقيَّة،،،

 

 

[ad_2]

المصدر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى