السياسة السودانية

محمد محمد خير يكتب: (البدلة) لغير الناطقين بها)

[ad_1]

قبل ثلاثة عقود لم يكن يرتدي البدلة غير الوزراء ورجال السلك الدبلوماسي وكبار القضاة، وبعض مذيعي نشرات الأخبار التلفزيونية، يشاركهم من المجتمع فقط محجوب عمر باشري وعبد الوهاب بوب عليهما رحمة الله.
كان البنطال الأسود والقميص الأبيض بالكم القصير الهيئة الجمالية للأناقة القصوى للمحافظين، وكانت الأقمصة المزركشة صوت الشباب لدرجة أن الشاعر حسن أبو كدوك طبع أنفاس محبوبته على قميصه بقوله:
عرائس ألوان الزهو أنتِ
وأنتِ الزركشة التي تزين صدر قميصي.
صارت البدلة الآن زياً قومياً في بلد تصعد درجات حرارته لمحطة الغليان، وينفلت الحر بعنف فينعدم الأكسجين ويخبئ الطير ولا تقول الأشجار (بغم)، ما هذه الإضافة النوعية للتكييف العمدي للأذواق؟
البدلة بنت الغرْب، وللغرْب تقاليد وأصول ومواصفات في شأن البدلة، فهي مُحرَّمة في أشهر الصيف، وارتداؤها في الحر مجلبة للتندر، ألم تقرأ أيها المتدثر بها في حر بلادنا سخريات برناردشو، أو وقفت على تأفف صمويل بيكيت، ووصفه من يرتديها بالفصام؟ حتى للخواجات في ارتدائها بعض (الأشهر الحرم)، ونحن لا نرتديها إلا في الصيف كعلامة للمغايرة والانشطار الداخلي.
أرى فيما أرى أن الصيحات المتشددة للالتزام بالبدلة زياً عاماً يحقق الأناقة والأصالة، أدت إلى خلق نوع من الانحياز المغلق لذات غير حضارية، وإلى خصومة نفسية وثقافية مع آخرين مثلي.
يوم السبت الماضي، قصدتُّ مأتم والدة الوالي الخضر، وكان حر (الدَّرت) في (عز الفحولة)، و(حر الدَّرت) موسمٌ فصليٌّ منذور لإنضاج الذرة لتميزه بالنار الهادئة التي تقوى على تجفيف السنابل وتحويل حبة الذرة من لبنٍ لكتلة صلبة، ليس حَراً عادياً عابراً، بل حَرٌّ له مهام ووظيفة وتنعقد عليه آمال شعب صابر، فهو يحدد وضعية البلاد الاقتصادية في التنافس السلعي والاقتصاد المعيشي، وكميات (الكسرة) وهجرات الطير.
كان الحَرُّ في مأتم والدة الخضر يُنجز مهمته المقدسة، وكان أحد الوزراء يرتدي بدلة كاملة غامقة اللون وجاذبة للحرارة، وكنتُ في تلك اللحظة أمسح عن جبيني الرياح كما يمسح العمال العرق، وأتساءل: لماذا يرتدي هذا الوزير البدلة في وقت تحاول فيه الطيور أن تتخلص من ريشها؟!
لا بد أنه يريد تذكير الوالي بعذاب القبر، بالجمرة التي (يرتديها) والأسى الذي يربط به عنقه!
ليت أمر البدلة يتوقف عند هذا الحد بارتدائها في غير فصلها ووقتها وأوانها، لكنه يمتد للاحتفاظ بماركتها في كُمِّها، فكم من مرة رأيتُ في القنوات التلفزيونية ضيفاً يتحدث عن النظافة والمواصلات و(الشرائح المستهدفة)، ويحرص على التقاط الكاميرا لماركة بدلته بوصفها أيضاً (شريحة مستهدفة)!!
الطقس في بلادنا يتناقض كلياً مع ارتداء البدلة إلا في بعض أوقات من أوان الشتاء، الذي يعقب نيران الصيف المستمرة؛ فنحن ليس في بلادنا برد وليس لها ربيع. الربيع الوحيد هو الربيع المجازي في أغاني الحقيبة، وربيع عبد العاطي في التعليق السياسي!
من أرشيف الكاتب..

صحيفة الانتباهة

[ad_2]

مصدر الخبر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى